أحمد حمزة *
عند السؤال عن البذرة التي طرحت حضارة إنسانية مازالت تجذب الانتباه وتكتم الأنفاس حتى يومنا هذا، نجد أنها الزراعة، التي عندما عرفها المصري القديم استقر وترك حياة التنقل والترحال وشيّد الحضارة الفرعونية.
وبالتأمل في قصة سيدنا يوسف نستنتج أن مصر كانت سلة غذائية لجيرانها، وبالرجوع إلى تاريخ الإمبراطورية الرومانية، نرى أنها كانت تعد مصر بمثابة مأدبة لكل مدن الإمبراطورية، وميناء الإسكندرية شاهد على ذلك.
إذن ماذا حدث لهذه السلة أو المأدبة حتى نضبت، وأصبحت الأولى عالمياً في استيراد القمح؟
أسمع في حياتي اليومية عبارة تكرر باستمرار ألا وهي دخول الأراضي الزراعية في ما يسمى بـ(كردون المباني)، وعبارات شتى أخرى عن استصلاح الأراضي الصحراوية!
أمِن المشقة والعسر أن نترك الأراضي الزراعة زراعية، ونستغل الظهير الصحراوي في البناء والتعمير و(كردون المباني)؟
الزراعة في مصر مشكلة مركبة ومتشعبة بشكل معقد، أشبه بالساقية، ومحاولات الحل دون دراسة وافية ورؤية واضحة تشبه دوران الثور في الساقية.
من العسير فك التشعب والتداخل الخاص بمشكلات الزراعة في مصر، ومنه تحديد أسباب فعلية أدت إلى تدهور واضمحلال الزراعة لكني عبثاً سأحاول في هذا المقال.
أولاً: قانون الإصلاح الزراعي وتفتيت الملكية الزراعية.
بعد الإطاحة بالنظام الملكي تقرر توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين، دون النظر إلى مستقبل هذا القرار، فبعد تقسيم الأراضي الزراعية مباشرة فُقد 5% من إجمالي المساحة المزروعة في مصر. حيث ضاعت هذه النسبة في إقامة القنوات وإنشاء الحدود والفواصل والمشّايات بين الأراضي الزراعية الموزعة بعد أن كانت مساحة واحدة.
وهذا التقسيم بطبيعة الحال لم يقف عند هذا الحد، بل كان عرضة للتقسيم مرات أخرى بين أبناء الفلاح، ثم أحفاده وأبناء الأحفاد وهكذا، حتى تفتت الملكية الزراعية تماماً.
ثانياً: تناقص الرقعة الزراعية المُفتتة؛ إما بالبناء عليها دون تخطيط أو التبوير بغرض إقامة مشروع اقتصادي ذات عائد مادي.
إن تملك شخص بضع قراريط من الأراضي الزراعية وقرر - لسبب لا يعلمه إلا الله -
زراعتها، سيقلب كفيه على ما أنفق فيها.. لذا لا تخطر تلك الفكرة على رأسه من الأساس، بل يبدأ في تركها تبور؛ حتى تدخل في (كردون المباني) ويرتفع ثمنها مقارنة بسعرها وهي خضراء! وهذه النقطة تحديداً مركبة النتائج؛ فالعمران المقام على رفات الخضراء زائل وفاسد؛ لإنه بُني بعشوائية دون تخطيط، يفتقر إلى الخدمات، وتشيع فيه الجريمة والفقر والمرض.
ثالثاً: مشكلات مياة الري التي تبيض وتلد وتتكاثر.
تعتمد الزراعة في مصر على النيل بنسبة تصل 95.1% طبقاً لإحصائية الإدارة المركزية لشؤون حماية الأراضي الزراعية التابعة لوزارة الزراعة. وتُهدّر هذه النسبة الكبيرة من مياة في الزراعة؛ نظراً لعدت عوامل، أهمها عشوائية الري السطحي أو الري بالغمر، الذي أيضاً يحتاج إلى مجهود بدني شاق في التسوية والحرث، بالإضافة إلى حاجته للمراوي والمساقي.
رابعاً: الحيازة المُفتتة للأراضي الزراعية تعيق استخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة.
كيف نستخدم آلات الزراعة الحديثة كبيرة الحجم في أراضي زراعية صغيرة المساحة، يفصل بينها حدود وفواصل؟
خامساً: من يمتلك الأراضي الزراعية مُفتتة المساحة تلك يستهلك جل الإنتاج من المحصول تقريباً ولا يترك شيء يُذكر للسوق.
فإذا نظرنا إلى مزراع أو فلاح - متفائل - مازال يزرع في ملكيته الزراعية المُفتتة حتى الآن، نجد أن ما ينتجه من محصول يُستهلك كغذاء في بيته سواء لأفراد الأسرة أو الماشية لديه، في ظل أرتفاع أسعار الغذاء وكذلك أعلاف المواشي، وإن بقي شيء زائد عن حاجاته يعرضه في السوق، على عكس المَزارع التجارية، التي هدفها الرئيس هو الربح عن طريق بيع المحصول.
سادساً: عدم وجود رؤية واستراتيجية واضحة لزراعة حبوب الأمن القومي (كالقمح والأرز) ومحاصيل الزيوت وقصب السكر.
سابعاً: هجرة الخبرات في المجال الزراعي إلى الخارج، حيث الدول التي تطبق ما درسوه لا الوسائل البدائية في الزراعة.
ثامناً وأخيراً: رفع الدعم عن المُزارع وارتفاع سعر الأسمدة، بالإضافة إلى تحول العاملين بالزراعة إلى مجالات أخرى أكثر ربحاً بالنسبة لهم ..
● صفوة القول
* استصلاح الأراضي الصحراوية لا يعوض تجريف وتبوير الأرض الخضراء على جانبي النيل؛ فطبقاً لإحصائية صدرت عن الإدارة المركزية لشؤون حماية الأراضي الزراعية بوزارة الزراعة عام 2014 يلزم استصلاح خمسة فدادين في الصحراء مقابل كل فدان زراعي يُجرّف! وتكلفة استصلاح الفدان الواحد تترواح بين 50 إلى 80 ألف جنيه عام 2014.
* تناقص المساحات الزراعية المفتتة بالفعل أثّر بشكل واضح على المحاصيل النقدية المهمة كالقمح، القطن، الأرز، قصب السكر ومحاصيل الزيوت أيضا، وأصبحنا نستوردها بمليارات الدولارات من الخارج، وأدى ذلك إلى زيادة العجز في الموازنة العامة، بالإضافة إلى تهديد الأمن القومي المصري، وقوع مصر رهينة لصراعات السياسية كما حدث أثناء الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وإذا استمر اضمحلال وتدهور الزراعة في مصر حتما سنجد أنفسنا نستورد الجرجير.
* طالب جامعي، تخصص لغة ألمانية، له مدونة باسم "كاتب بيفك الخط"، مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.