مازن العليوي: المتنبي.. من أسراره الإيقاع العروضي الساحر - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الخميس، 5 أكتوبر 2023

مازن العليوي: المتنبي.. من أسراره الإيقاع العروضي الساحر




مازن العليوي *

ما إن يأتي عيدٌ حتى ترى معظم العرب يرددون بيت المتنبي الذي يقول فيه:

عيد بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم لأمر فيك تجديد

ليحولوا العيد من حالة الفرح التي يفترض له أن يكون عليها، إلى حالة الحزن والأسى التي أرادها المتنبي لهم، وفقاً للظرف الذهني الذي مرّ به أثناء كتابته لقصيدته الشهيرة تلك، مؤكدين بذلك هيمنة الكثير من أبيات المتنبي على الذاكرة العربية.

المتنبي كشاعر مبدع، متمكنٌ في قصائده، من المطلع والصياغة واختيار البحر والقافية المناسبة لموضوعاته.. وهذا من أسرار تميزه في عصره، وتقدمه على الشعراء في العصور السابقة واللاحقة، لذا نجده اختار النداء والاستفهام مخاطباً العيد في مطلع قصيدته الهجائية لكافور الإخشيدي، والنداء والاستفهام يندرجان ضمن أسلوب الإنشاء في اللغة، وعبر التركيب الإنشائي عمل المتنبي على (أنسنة) العيد محاوراً إياه ومتسائلاً- من طرف واحد- عن الأمر الخفي الذي يحمله العيد، من دون أن ينتظر رداً، فقد جزم الأمر في البيت التالي، مؤكداً أن الأحبة بعيدون، مما يشير إلى أن الحزن قد خيّم عليه:

أما الأحبةُ فالبيداءُ دونَهمُ

فليتَ دونكَ بيدٌ دونها بيدُ

ذلك الحزن لم يبقَ حالة خاصة بالمتنبي تتبع مناسبة القصيدة، بل صار سمةً عامةً للذهنية العربية في العيد، ولا نبالغ لو قلنا إن هذا الأمر من جنايات المتنبي- من حيث لا يقصد- على الأزمنة التي أتت بعده، لنجد الناس يستعيدون ذكرياتهم في العيد عبر بيته، ويتحسرون على الزمن الذي مرّ، فقد ترسخ في قناعاتهم أن الماضي جميل بكل ما فيه، وأن الواقع ليس كالماضي، والأمور غالباً تسير نحو الأسوأ، وظهرت مصطلحات وعبارات لدى العامة في الدول العربية مثل (جيل الطيبين)، وباللهجة الدارجة نسمعهم في العراق وحاضرة الفرات يقولون (أيام ذيك المضن.. ما أظن يعودن بعد).. وغير ذلك.

وأما صياغة المطلع في بيت المتنبي، فنجدها بسيطة انسيابية، إذ لم يذهب المتنبي في مفرداته إلى غريب الألفاظ وصعب التراكيب، بل جعل الكلمات مما يتداوله الناس في أحاديثهم (عيد، مضى، حال، تجديد...)، وهذا سبب آخر سهّل على الناس حفظ البيت، حتى بات حاضراً أمامهم للتحسر كلما جاء عيد، إلى ذلك، اختار المتنبي لقصيدته البحر البسيط، وتفعيلاته:

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن

والبحر البسيط فيه مرونة كبيرة وإيقاع عروضي ساحر، فهو يصلح للقوة اللفظية والجزالة الموسيقية، ويصلح للبساطة، وعليه فقد تمكن المتنبي من البدء بالليونة والانسيابية في خطابه للعيد، معتمداً على ملكته التعبيرية الفذة، ثم تداعت أفكاره إلى القوة اللفظية في أبيات لاحقة من القصيدة الهجائية.

وبحسب د. إبراهيم أنيس في كتابه (موسيقا الشعر) الصادر عام (1952م)، فإن البحر البسيط يحتل المرتبة الثالثة، من حيث توظيفه في قصائد المتنبي بنسبة (16) في المئة بعد الطويل والكامل، أي أن المتنبي متمرس على الكتابة في هذا البحر، وهذا التمرس من العوامل التي جعلت بيته حاضراً على الدوام لدى العرب، بمختلف سوياتهم المعرفية والثقافية، فالمتنبي أجاد استخدام البحر البسيط للمعاني التي يريد، وقصيدته هذه مثال حقيقي تطبيقي لمقولة أبي هلال العسكري المعاصر للمتنبي في (كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر): وإذا أردت أن تعمل شعراً، فأحضر المعاني التي تريد نظمها فكرك، وأخطرها على قلبك، واطلب لها وزناً يتأتى فيه إيرادها، وقافية يحتملها.. فمن المعاني ما تتمكن من نظمه في قافية ولا تتمكن منه في أخرى.

أما في القافية، فقد ذهب المتنبي في الرويّ إلى الدال المسبوقة بساكن، والسكون عنده طويل (حرف مد)، وهو الردف، والتزم (المتنبي) قافية الدال المردوفة، حسب العرف العروضي، والدال يصنف كحرفٍ انفجاري، يلفظ بحسب مخارج الحروف، من خلال الانطباق التام للسان مع أصول الثنايا العليا للفم، ولعل (المتنبي) أراد أن يفجّر بذلك بركانه الداخلي الناتج عن الوضع الذي كان يمر به وقتها، لكونه فقد الأمل في أن يعطيه (كافور الإخشيدي) ولاية في مصر، وقرر مغادرتها كسيراً يجر أذيال الخيبة، ولا يدري هل يعود إلى حلب، حيث سيف الدولة الحمداني، أم إلى بغداد، أم هو راحل إلى المجهول؟ وكان أن لقي حتفه عام (354 هـ - 965م) قرب بغداد، على يد (فاتك الأسدي) انتقاماً لابن أخته (ضبة)، الذي هجاه المتنبي وأمَّه بأقذع الألفاظ.

* كاتب وشاعر وإعلامي سوري 

- عن مجلة الشارقة الثقافية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.