إبراهيم الدعجاني يغيّب القاع ويصنع الدهشة بين العشق والأوجاع - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الأحد، 21 يناير 2024

إبراهيم الدعجاني يغيّب القاع ويصنع الدهشة بين العشق والأوجاع

 




كتب: مازن العليوي

في مجموعته الشعرية "سطوع لا قاع له" الصادرة عام 2021 عن دار الحازمي، يمارس الشاعر السعودي إبراهيم الدعجاني صناعة الدهشة من خلال المفارقة واللغة، تلك الصناعة التي تبدأ من العنوان الذي يثير التساؤل، وتصل إلى الغلاف الأخير من الإصدار عبر نداء محاربة الطواغيت، ولكن أي الطواغيت يقصد الدعجاني؟ إنه تساؤل آخر يتركه حائراً ليفهمه المتلقي بطريقته وتبعاً لمستوى تحليله لكينونة الحدث من خلال قراءة ما في الداخل.

لأنكَ اخترت

انطلاقاً من الإهداء يخرج الدعجاني عن المألوف، فيهدي ديوانه الشعري للقارئ بقوله: "إليكَ لأنك اخترت أن تقرأني".

وتأتي القصائد بعد ذلك ما بين العمود والتفعيلة، ليظهر الشاعر إبراهيم الدعجاني متمكناً من العروض قادراً على التدوير بين التفعيلات، ضمن أفكار وأخيلة تستدعي التفكير، ومن أجل أن يدرك المتلقي الكثير من الرؤى في الديوان يجب أن يكون في حالة ذهنية متوقدة، ويكون متفرغاً لأن يقرأ ويفكر في المعاني.. ومن ذلك يحضر الراهب الكامن في ناقوس عشقه:

ثمّ ارتداهُ الليلُ بعد مشارقٍ
وجعٌ أصابَ مَلاحتي وسط النّوى
هذا الصُّوَيحب يا رفيقي ما خَلا
من طعمِه غيرُ السّقام منَ الجوى

فكيف لليل أن يرتديه، وما الحل مع ذلك الوجع؟ هنا يترك الدعجاني الباب مفتوحاً تاركاً للمتلقي أن يبحر في الأفكار التي تقوده إليها الكلمات.


وفي قصيدته إمامة عاشقة، ينزع الدعجاني إلى المصطلح الديني، بأسلوب رمزي، لا يحتوي على إيحاءات مخلة، لكنه يبدو مسكوناً بالوجع مثل القصيدة السابقة:

قُدّي قميصي وابتغي .. فِي القلبِ محراباً لكِ

صلّي على وجعي بِهِ .. وتباركي.. لا تُشركي
وخذي الإمامة ديمةً .. تهمي عليّ بمنسكِ


وعندما يطل الشاعر من شباك الحب يتابع حالته العاشقة، ويقول مستلهماً من الميثيولوجيا والأسطورة فكرته:

"كُوبيدُ" وَالشَيطانُ صِنْوانِ
اغسلوا أدرَانكمْ..
فالحبُّ تنزيلٌ بنا ربّاني


يتابع الشاعر الدعجاني قصائده العاشقة أو حكايات الوجع، فينادي "تعالي"، ثم يتحدث عن "غيابات القمح"، ويمضي "على قارعة الرحيل" مناشداً إياها:

فاقبريني
في ضلوعِكْ
كي أباهي فيكِ جيلا


عاشق في وضع مختلف

وعندما يحاول الشاعر أن يصنع المفارقة أو الطرافة، نجده عاشقاً وإن في وضع مختلف كما في قصيدته "رجل غبي".. لكن الحب السامي يتجلى لديه في "أصبوحة الأمومة" ليخرج من أنموذج القصيدة العمودية إلى التفعيلة، ومن العشق المألوف إلى المشاعر الإنسانية الراقية.

ويكمل في مسار التفعيلة، عائداً إلى الميثيولوجيا في قصيدة "ميعاد في الفراغ البدائي"، مستوحياً الفكرة من حكاية "كاوس" و"غايا".. ولا يلبث أن يعود إلى القصيدة العمودية وجموح العشق في نصه "على ضفاف القصيد":

هزّي ظلالكِ في ضفافِ قصائدي
لمخاضِ عشقٍ من جذوع توجُّدي


أما قصيدته "سطوع لا قاع له"، والتي عنون بها الديوان، فيشعر المتلقي فيها بأنفاس متصوف في محراب العشق:

يسيلُ النور من عيني سطوعاً
                       ولي في الكفّ طلعٌ مستجيبُ
ولي قلبٌ كقلبِ الناسِ يظما
                         ولكن بسمتي بئرٌ صبيبُ


تتلاحق القصائد ضمن الروح التي أراد الشاعر الدعجاني أن ترتسم بين الصفحات، مثل: "وللشوق خطرات" المشبعة بالتصوّف، و"قسيم العشاق" التي يبدو فيها هواه جلياً، و"ذات القلب المتسع لكل المتعبين" النابعة من معرفة عميقة بمن يوجه إليها كلماته، ويرسل العشق من جديد في "أجمل النساء"، ثم "بكاء الياسمين" الغارقة بالحنين، و"الهروب إلى صدر عاشق" حيث يظهر المكان على شكل شفتين وصدرٍ مبلل، تستمر رؤى العاشق الموجوع الذي يسكن الجفاف قلبه في قصيدة "قد لا تبدو هزيمة".

رؤى واختراق

بعد ذلك، وقبل أن نبلغ منتصف الديوان تحدث نقلة في الأفكار، ليخرج الشاعر عن الروح التي كانت، وينتقل إلى رؤى مختلفة، فنجده في حالة غنائية في "أغنية سمر شعبي"، ونراه يخترق عالم السياسة بأسلوب يحمل أفكاراً وراء السطور فلا يؤخذ منها المعنى المباشر، كما في "خطبة زعيم مقاوم":

لا تيأسوا..
وعُدُّوا معي: كي نهزمَ عدوَّنا اللعينَ
أوّلاً أُبِيدُ مدينةَ المعترضينَ
وثانياً أبيدُ مدينةَ المحنّطينَ
وثَالثاً أُفجّرُ القُبُورَ الطّامحةَ في السّماءْ
ورابعاً أفجّرُ المناراتِ كي لا تَحْجُبَ الفضاءْ


وتأتي بعد ذلك نزعة توظيف الموروث الديني في قصيدة "عاشور حسيني"، ثم "لطم في وجه الخلاف"، وينتقل إلى إبراز الثقافة الموجودة لديه، فمن التاريخ استوحى "عبسيات".. ومن الزمن القريب كتب "درويش لوركا العرب"، ومن الواقع كتب "في إغلاق كورونا"، ثم "بلاد الخير".


التصوف المتسامي

يعود بعد ذلك إلى حالات متنوعة كالعشق والوجع والظلام واستلهام التاريخ.. إلى أن يختم الديوان بحالة من التصوف المتسامي، أرادها أن تكون قفلة لتعبر عن الفكر الذي يهجس به، لتكون قصيدة "تحول من داخل الذات"، معبرة عن الدعجاني كشاعر، ومعبرة عن السمة العامة للديوان:

أَبوءُ
إليكَ من محرابِ قلبي
ليهطلَ لي على الرحماتِ وَدْقا
وأفْتِشُ
في تسابيحي المثاني
لسبعٍ في معانيها سنبقى


أخيراً، حلّق إبراهيم الدعجاني في فضاءاته الخاصة، ولم يكن يشبه غيره، ليقدم لنا إصداراً شعرياً يستحق القراءة، ويستحق كل من قرأه أن يهديه الشاعر هذا الديوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.