إبراهيم علي المطرود: لا بد أن أراها اليوم - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الأحد، 20 أبريل 2025

إبراهيم علي المطرود: لا بد أن أراها اليوم

 


إبراهيم علي المطرود *

- لابد أن أراها اليوم.. شيء في قلبي يحدثني بذلك..
... بأصابعه الخشنة لف عدة لفافات من "صفط" الغازي الذي هيأه بعد أن تناول شاي الضحى.. وضع لفافة بين شفتيه وأشعلها بقداحة الفتيل البرتقالي الطويل.. نفث نفثة واحدة عميقة ملأت الجو دخاناً يتلوى بهدوء وتثاقل مثل بخار يصعد من إبريق الشاي في يوم برده قارس جداً...
- لابد من رؤيتها..

أسر ذلك في صدره.. كانت أجفانه تلتصق أهدابها ببعض عندما يطبق جفنه الأعلى مع الأسفل من كثافة الدمع الذي تحجر في عينيه من دون أن تذرف منها دمعة واحدة.. دمع مالح جعل من بياض عيونه أحمر..
لم ينم جيداً.. تقلب في فراشه كثيراً..
- عيون الذيب ما تنام..

أجاب على سؤال أمه عندما استفسرت منه عن سبب احمرار عينيه.. فبهتت وانصرفت إلى شأنها.. هي تعرف حقيقة ما به.. وتدرك عمق معاناته وهدوء أعصابه وعمق سره وماهيته.. أمه التي لمحت ذات يوم تلك الفتاة التي سلمت عليها عندما عاد هو وأمه من زيارة الطبيب والتقوا في شارع بيتهم..

- كيف حالك عمتي؟.. سمعت من أمي أنكِ مريضة.. عليكِ العافية إن شاء الله ما تشوفين شر..
رمقها بنظرة خاطفة ملؤها اللهفة والشوق والهيام..
شعرت بذلك.. فابتسمت وأطرقت عيناها واحمرّت وجنتاها.. فسلمت وتابعت طريقها تمشي على استحياء..

لبس أفضل ما لديه من الثياب.. تناول عطراً جلبه من المدينة في آخر زيارة له مع صديقه أحمد.. لم يتعطر منه سوى مرة واحدة عندما ذهب لحضور حفلة زفاف ابن خالته حسنة في قرية الكسرات..
- ابد أن أراها اليوم..اليوم...

كيف له أن يراها.. ماذا يفعل.. وهو الذي تجاوز سن الثلاثين من العمر..! هل يمر من أمام منزلها.. هل من سبب يتحجج به للمرور من هناك؟
هل يذهب إلى النهر ماراً عبر حقول القطن والخضار ليراها هناك، وهي تعمل مع أهلها في حقلهم.. وكيف له أن يعرف أنه رآها أو أنها رأته وهي تلف رأسها كاملاً، وتضع طاقية فوق رأسها من حدة الشمس.. ولاتظهر عيونها.. وهي بين ثلاثة من أخواتها.

فكرة رؤيتها أخذت من تفكيره الكثير.. وهو يقلب تفاصيلها واحتمالاتها..
- ما العمل يا قلبي؟
نالت آخر فكرة عنده كثيراً من الاستحسان..

انطلق وقد احمرّت وجنتاه من الفرح والسرور.. سار قاطعاً الطريق العام باتجاه النهر جنوبا.. كانت الشمس قد ارتفعت إلى ما قبل الظهيرة بساعة تقريباً..
على درب اليمرون
أريد أقعد وأنادي
متى أحبابي يعودون
ما تقلي يا حادي.. يا حادي...


.... وصل إلى حقلها فأبطأ خطاه.. كان وجهه إلى الأمام.. لم يلتفت إنما عيناه كانتا تنظران باتجاه الفتيات في الحقل.. لم يبالين به بداية.. كنّ ينظفن "بقچة" البندورة من الأعشاب الطفيلية الضارة. عندما وصل إلى الجهة التي تقابلهن في مشيته وكنّ لا يبعدن عنه سوى بضعة أمتار.. رفعن رؤوسهن واعتدلن في وقفتهن ونظرن إليه.. لوّح بيده مسلماً من دون أن ينبس بكلمة، فأومأن برؤوسهن دلالة رد السلام والتحية.. كان قريباً لهن من جهة أبيهن.. تابع سيره مسرع الخطى.. هناك شيء ما في قلبه يدق ويرقص.. ممزوج بالخوف والحياء وكثير من الحب.. لم يستطع أن يلم به ويفسره.. حالة عجيبة ترجفه..

وصل إلى النهر.. من الجهة الشمالية.. نظر إلى النهر بفرح وشموخ وزهو.. كانت النوارس تطير وتنزل إلى الماء تصطاد طعامها.. من الأسماك المتعثرة على سطح الماء الجاري أصوات موتورات الأندريا تملأ المكان نشيداً وشجناً رتيباً وجميلاً ودافئاً.. وصيادو الأسماك يرمون بشباكهم في أماكن وجود الأسماك.

سار بهدوء وأناة، وقد وضع يديه خلف ظهره كمن حصل على جائزة لم يتوقع الفوز بها ونيلها بهذه السهولة.. 
نزل إلى الماء.. قرفص بجانبه.. جعل الماء يمر من بين أصابعه وغنى بصوتت خفيض وحنون:
"أصدق يا جاري النهر
اليوم ما جنّك...!؟
بميّك كرفت المسچ
من اريام وِرْدنّك"

غادر النهرعائداً من حيث أتى.. هذه المرة مشى بهدوء متلفتاً يميناً ويساراً.. وقبل وصوله إلى الحقل الذي تعمل فيه فتاته التي لم يتبينها بين تلك الفتيات.. توقفت إحداهن عن العمل والتفتت إليه، بينما ثابرت بقية الفتيات في إنجاز عملهن..

وصل إلى جانبهن.. أدى التحية بهدوء.. عرف أنه فتاته.. من طولها، وقفتها..
- مرحباً يابنات.. قال..
- أهلاً وسهلاً يا شب.. مرحباً بك.. تشرب شاي؟ صنعنا شاياً على الجمر منذ قليل.

لم يصدق مايسمعه.. وما يراه. .أدار وجهه إلى كل الجهات.. قلبه يدق من المفاجأة والدعوة لتناول الشاي في هذا المكان وخشية العريضية.. فأجاب:
- نعم.. أشرب..

أحضرت إبريق الشاي مع كأس وسكبت له كأساً.. تناوله بيد مرتجفة فقرفص مكانه وشربها على عجل.. ثم نهض واقفاً وهو يناولها الكأس قائلاً: دايمة.. دايمة.. اليوم إن شاء الله سوف تزوركم أمي وأختي.. تقبلون زيارتهن؟
- أهلاً وسهلاً.. هلا ورحب..

لم ينتبه إلى علامات وجهها.. أسرع خطاه متجهاً إلى الشمال.. باتجاه البيت.. وين أمي.. ووين أختي.. وين أهل المروّة..

* كاتب سوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.