غازي عبدالرحمن الحَجَّو: شَاعرةٌ من الخابور.. فَارِعَةُ الجزيرةِ الشاعرة آمال إبراهيم اللطيف - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الاثنين، 12 مايو 2025

غازي عبدالرحمن الحَجَّو: شَاعرةٌ من الخابور.. فَارِعَةُ الجزيرةِ الشاعرة آمال إبراهيم اللطيف

 



غازي عبدالرحمن الحَجَّو*

كثيراً ما تتداعى الصور وتتداخل الأفكار بين الأماكن والأشخاص عند ذكر بعضها، فما إن تتحدث عن نهر الخابور في الجزيرة السورية تزاحمك صورة الشاعرة الفارعة الشيبانية التي قال عنها محمد التونجي في معجم أعلام النساء: شاعرة رقيقة الشعر تركب الخيل وتقاتل مع المحاربين... برزت الفارعة الشيبانية في الشعر وتمكنت من تخليد ذكراها دون إرث شعري ضخم إلا أن ما بقي لها من آثار لفت الانتباه فكانت بحق رقماً يصعب تجاوزه في زمن تسليط الأضواء على فئة من الأدباء طبقاً للأعراف والتقاليد السائدة ومَنْ لا يذكر ما قالته:
بتل نهاكي رســـــــمُ قبر كأنه .. على جبلٍ فوق الجبــــال مُنِيفِ
فيا شجر الخابور مالك مورقاً .. كأنك لم تجزع على ابن طريفِ

فها هي الجزيرة السورية تنسل فارعةَ اليوم الشاعرة آمال إبراهيم اللطيف.. شاعرة رقيقة تمتلك ناصية الحرف لتطوِّع الكلمة بعفوية صادقة وفطرة طبيعية، هي من فوارس الشعر تمتاز بمتانة الأسلوب وجزالة الكلمة وعمق المعنى تكتب الشعر الموزون بإتقان وحرفية عالية، وتجد في القصيدة العمودية ببحورها وموسيقاها سحراً متميزاً خاصاً، فكانت القابضة على زمام الوزن والنبرة الشعرية الرقيقة بموسيقاها الظاهرة والخفية، أحبتِ الشعر منذ طفولتها.. تتنفس الشعر الذي وجدها ووجدت نفسها به. كتبت عن الحب، فتجدُ أن الشاعرَ لا يستطيع أن يبدع من دون أن تهزَّه رياح الشوق وتعصف به زوابع الحنين، وكتبتْ عن الرجل الذي تجدُ فيه محوراً لقصائدها، وهي تعيش معه الحب والفرح والألم والأمل. وكتبت عن المرأة، فترى أن الشعر جعل المرأة تبحث عن الحرية، وبه تكسرت أغلال كثيرة وتحررت نساء كثيرات من العبودية، وكتبت عن الوطن بأفراحه وأحزانه. وكتبت عن المساء والعطر والزهور، فهي النجوم التي تسكن سماء فكرها وعوالم جمالها..

وبالمجمل إن الشاعر هو ابن بيئته يعيش فيها وتعيش في ذهنه وعواطفه فتثير ملكته الشعرية كاشفاً حالته النفسية وما يعتريها من انفعالات وإرهاصات، فلمنطقة الجزيرة السورية التي ترعرت فيها شاعرتنا دور في تطور تجربتها وتحديد منحى نهجها الشعري بين الرقة والأنفة، فظهرت أنفة بوحها من أنفة السنابل وشموخ الغرب والحور والطرفا وظهرت رِقتُها من عذوبة الخابور وحزنه الهادئ وبياض القطن وصفاء السماء وامتداد المساحات الخضراء:
أبداً يلاحقني نــــــــدى الخـــــــابور
                                         ويفوح عطر صبابتي وزهــــــوري
يا سالكي درب الغيـاب تمهـــــــــلوا
                                         وخذوا ملامح لهفتي وعطــــــوري
وخذوا تسابيح الهوى بقصــــــيدتي
                                         ودفـــــاتري ومنــــابري وشعوري
يا نهرُ أين أحبتي؟ مذ غــــــــادروا
                                        تاهت بأحشــــــاء الظــــلام بدوري
أنا ظبية الخــــــــابور كحَّلها الهوى
                                        العشق حتى الموت من دســــتوري
ووشــــــــمت قلبي بالحنيــن لطفلةٍ
                                        كانت وكان غــــــــرامها خــابـوري


في حالة من الخيال الضارب العمق تجدُ نفسك أمام لوحة مزدحمة بالجمال ومتكاملة في عناصر الرسم الجاذبة، فهي على الرغم من حدتها تضج بألوان الأنوثة الفياضة، بحر من الرِّقة والحنين الذي يبدو هادئاً ساكناً كسكون الماء جميلاً يتشهق الرائي اشتهاء المسِّ بصفحات لجَّته، لكن كن حذراً من تكدير صفو اشتياقه ولا تراهن، فثورة بحر الهيام قد تودي بك في العرش الماسي:
لا تمتـــــــحنْ فيَّ الحنيـنَ فإنّني
                                        بحرٌ إذا هامَ اشــــتياقاً أغرقَـــكْ
أنا إنْ أتيتُكَ لا أكونُ بمفــــردي
                                        عرشٌ من الألماسِ جاءَ ليرمقَكْ


وكما هي الشمس في عطائها تبثُّ النور والدفء وتعطي بلا حدود من نبعٍ أصيلٍ صافٍ طاهر لكنها كشموخ الحور والغرب والصفصاف الذي تجنَّد على ضفاف الخابور شامخاً لا تهزه الريح ولا تنال منه السهام، فهنا وجدتْ شاعرتنا نفسها وعبَّرتْ عن ذاتها، لتكون رمزاً للعطاء من دون تذلل وانحناء أو سذاجة.
أنا شـــــــمسُ القوافي والفيافي
                                    أبثُّ النّـــورَ في كلِّ الجهـــــــاتِ
أنا بنتُ القصـــــــيدةِ وهيَ أمي
                                    وأمي مـــــن ســليلِ الطاهــراتِ
فـــلنْ تهتـــزَ أغصاني بريـــــحٍ
                                    ولن أخشى سهاماً من رمــــــاةِ

حرف تملكه اللهيب وتمهدته لواعج الشوق فبين أضلع الدفء وأكفِّ النسيم كان العشق حالماً وديعاً بين هالة من الأحلام والأماني التي ارتسمت على صدر الغرام، فشاعرتنا بمعانيها اللاهبة المستعرة وبقلمها الدافق الغزير رهيف الحس وبحرفية عالية أظهرت رِقَّتها المتوردة في عنفوان اشتعالها:
ما بين أضـــلاعي غفا فضممتُهُ
                                       وعــلى أكفٍ كالنســـيمِ حمـــلتُهُ
لمّا استفاقَ الفجرُ فوقَ جبـــينهِ
                                       أدركتُ أنّي حيـــــــنها قبــــلتُــهُ
كم شعتِ الأحلامُ والدنيـــا معــاً
                                       لمّا على صــدرِ الغرامِ رســمتُهُ
أشعلتُ شمعَ الأمنيـاتِ، تورّدت
                                       ومن اشتعالِ قصــائدي أشـعلتُهُ


وفي نبرة تحدٍّ عالية تقف وبثقة لتقول أنا أنثى الجزيرة الجمال والسحر والشكل والصورة في جوهرٍ صعبٍ ومراسٍ قوي لا يقل أهمية في مكاسرة الحياة وتحدياتها عن الرجال، بل عن آلاف الرجال وكأننا أمام رفض لِمَا تَسَيَّدَ الذهنيةَ في استعلاء الرجل، لتثبت تفوق المرأة في الكثير من المواقف والحالات:
أنا منطِقٌ
صعبٌ عليكَ وُلُوجهُ
شتانَ بينَ حقيقتي
والصورة
فاسرحْ بحلمكَ
يا غرِيرُ فإنني
أنثى تُعادل ألفَ
جمعِ ذكورة

وكأي امرأة لا تستطيع التَّفلت من جنون التملك في تجسيد علاقة الحب في صرخةِ تمردٍ أظهرت من خلالها أقصى حالات الوله، كيف أبدعت الشاعرة في تصوير هذا المشهد الشعوري الفاتن لتعكس صدىً صادقاً عميقاً لانطباعات النفس بانفعالات فيها رمزية الإخلاص في صلوات العشق، ورمزية الحياة وتورقها واخضرارها وتفرعها، وتواصل تدفق نسغها لقلب لن يكون لغيرها في عشق ترسم نواميسَ جنونه وجموح صبابته بنفسها:
تعالَ.. تعالَ يا أقصى جنوني
                                أعلّمكَ الصّبــــــابةَ والجنونا
أُعلّمكَ الصّلاة على غصوني
                                فأنتَ لغيرِ قــلبي لن تكونـــا


وفي لوحة إبداعية فاتنة أكثر إسهاباً وتنوعاً تشهَّقتْ شاعرتنا بهذه اللهفات المتوهجة وقد شدت على أقواس هودجها مراسيم السفر على ضوء جراحات خافتة لتضع خطوطاً حمراً تحذر من الاقتراب منها:
لا تَقتَرِب مِن لَهفَتي قد تَحتَرِقْ
فيسيل صوت الليل
في أنفاسِنا خَمرَاً
على شَفَةِ الشَّفقْ
كلُّ التَراتيلِ التي أدّيتُها وتَلوتُ في محرابِ لهفتنا
تَعَاويذَ الفَلقْ
لا تَقتَرِب من لهفَتي لا تَقتَرِب
كلُّ الموانىءِ في مياهيَ تضطَرِب
غادِر سَريعاً حيثُ مأواكَ المُلائِمُ
في نهاياتِ النَّفقْ
لَملِم بَقَاياكَ التي
اهتَرأت على أغصَانِ ذاكِرَتي
وَغَادِر كلَّ أشوَاقي وَأورَاقي
أنا الأُنثى التي شدّت
على أقوَاسِ هودَجها
مَرَاسيمَ السّفر
أمشي على ضوءِ الجِراحِ الخافتاتِ
بِصمتيَ المقتول
يشبهني القمر
أسوَارُ مملكتي جيوشٌ
مِن حَبَقْ
لا تَقتَرِب لا تقترب

وأخيراً، لابد أن نذكر أن شاعرتنا آمال إبراهيم اللطيف هي من مواليد مدينة الحسكة في الشمال الشرقي من الجهورية العربية السورية نالت جائزة المركز الأول في مهرجان بدوي الجبل الشعري عام 2018 والمركز الأول في الإبداع في صحيفة العربي اليوم لعامين متتاليين 2016- 2017 وفازت بقلادة الجواهري الذهبية للقصيدة العمودية في أستراليا عام 2018 ولها تحت الطبع ديوان شعري بعنوان (على أكف الحنين) وعشرات بل ربما مئات القصائد والمشاركات عبر المواقع الإلكترونية. فهي بحق فارعة الجزيرة، وقد غادرت أرض الوطن كملايين السوريين لتحلق بحرفها في فضاءات الحرية وستعود قريباً بإذن الله تعالى.

* شاعر وكاتب سوري، عضو اتحاد الكتاب العرب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.