ما أثقل أن تكون أنت الذاكرة.. أن تُترَك حياً لا لتعيش.. بل لتتذكّر.. أن تصير عينك حافظةً لوجوه غابت، وصوتك هو الوحيد الذي مازال ينادي أسماء لا يردّ عليها أحد.
الحنين ليس ما نشعر به حين نفتقد.. بل ما نشعر به حين نتألم لأننا ما زلنا نذكر.
كنا خمسة.. أنا أصغرهم كنت مثل حافة قصيدةٍ لا تُقرأ، كلمة تُركت على الهامش، لكنها تشهد على كل المعنى.. خمسة إخوة كأصابع يدٍ كانت تمسك الحياة من دون خوف، ثم تناثرت.. كل إصبعٍ منها في جهة كأن الحياة قالت: لا تجتمعوا مجدداً.
الأول كان يغني.. صوته يفتح أبواب الفجر، وكنا نوقن أن الشمس لن تخرج إلا إذا غنّى.. اختفى ذات صباح، قالوا إنّه التحق بالغيم..
أمّي كانت تقول وهي تكفكف الغبار عن وسادته: "من يرحل بصوته، لا يعود بجسده".
الثاني كان يحلم كثيراً.. يخطط لبناء مدنٍ فوق السحاب.. ويرسم لنا خرائطها على التراب.. أخذته الحرب.. كل ما عاد منه كان دفتراً محترقاً ونظرة عالقة في صورة
وفردة حذاء.. أبكي كلما فتحت الدفتر، ليس لأنه احترق، بل لأنه لم يُكمل الرسم.
الثالث كان قلب العائلة.. إن ضحك ضحكنا، وإن مرض مرضت السماء.. مرض في صمت ومات في صمت.. ورحل بصمتٍ أكبر.. وحين دفنّاه، سقطت السماء لأول مرة، ولم تمطر.. حتى المطر خاف من أن يوقظ فاجعتنا.
الرابع، كان الأقرب لي.. كنا ننام في فراش واحد نتشارك الغطاء والحلم والسكينة.. وحين كبر، كبر عنه قلبي.. صار يعود ولا يدخل غرفتي.. يناديني باسمي وكأنه لا يعرفني.. قلت له ذات مرة: "أين وضعتَ صوتك القديم؟".. فقال: "دفنتُه كي أعيش".. ولا أعلم أيّ حياةٍ تلك التي تطلب فناء الذاكرة.
وأنا.. أنا الأخيرة.. بقيت لأحرس أسماءهم.. أحمل صورهم في صدري، كأن قلبي معرضٌ لوجوهٍ اندثرت.. أعدّ غياباتهم لا بالأيام، بل بثقل النداء في حنجرتي حين لا يُجيب أحد.
كل ليلة أجلس في فناء البيت القديم.. أحمل قميصاً لهذا، دفتراً لذاك، صورةً للآخر، ودمعةً لما تبقّى. أقول للريح: "مرّي بأسمائهم.. لعلّهم يسمعون".
ثم أبدأ العد:
أول..
ثانٍ..
ثالث..
رابع..
حنيني..
سكوتي..
أنا..
لم يعُد الغياب موتاً.. إنما أن تظلّ حياً لتهتف بأسماء من ماتوا.. من رحلوا.. أن تصير أنت النداء الأخير في الوادي.. والصدى لا يعود.
أول..
ثانٍ..
ثالث..
رابع..
حنيني..
سكوتي..
أنا..
لم يعُد الغياب موتاً.. إنما أن تظلّ حياً لتهتف بأسماء من ماتوا.. من رحلوا.. أن تصير أنت النداء الأخير في الوادي.. والصدى لا يعود.
هكذا أفهم الحنين الآن: إنه وجعي حين أنادي.. ولا يردّ إلا الليل.
* كاتبة سورية، تستخدم اسماً مستعاراً، حسابها على موقع فيس بوك وطفة الفرات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.