عبدالرزاق بشير الهويدي *
كنا هناك.. نحن المنسيّين عن خرائط العالم، المعذَّبين في الأرض.. نختبئ في ركنٍ قديمٍ من بناية الكعكجي، نُداري عجزنا خلف نفَس من دخانٍ محرَّم، نتقاسمه كما نتقاسم الخوف والهمّ، بعيداً عن عيون الحسبة.. كلٌّ منا يحمل حصته من الرعب، من الفقد، من الانتظار.
كنا هناك، كل صباح وحتى ما بعد الظهر، نجتمع في تلك الزاوية التي صارت مأوى مؤقتاً من جنون الخارج.. مع أصدقاء المحنة والحصار: أبو رهام، أبو أيهم، أبو فايز، أبو أنور (رحمه الله)، أبو عزيز، الآغا معن، وخالد... وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة بتذكرهم
لم يكونوا مجرد أسماء، بل رجالاً يصنعون من الزاوية الصغيرة وطناً، نلجأ إليه من ضجيج الخارج ومطاردة الداخل.
كنا نتسامر على وقع القلق، نتبادل أخبار الفقد: من غادر؟ من اختفى؟ من اعتقلوه؟ من مات بصمت؟ من بقي معنا في هذا الحصار الطويل؟
وفي صباح الثلاثاء، 25 تشرين الثاني 2014، كان اليوم يبدو عادياً... حتى انقلب كل شيء.. هدير الطائرات الروسية مزّق الصمت، الدخان بدأ يتصاعد من جهات متفرقة…
ثم جاء الصوت الأقرب، الأعنف، الارتجاج الكبير… اهتزت البناية، التصقنا بالجدران، كل واحدٍ منا أمسك بأنفاسه كأنها آخر ما يملك.. ساعة من الجحيم. ثم صمت…
ثم جاء الصوت الأقرب، الأعنف، الارتجاج الكبير… اهتزت البناية، التصقنا بالجدران، كل واحدٍ منا أمسك بأنفاسه كأنها آخر ما يملك.. ساعة من الجحيم. ثم صمت…
الأخبار تتوالى: ضربة عند المستودع الأصفر، أخرى في حي المشلب، غارة على منطقة البريد، قصف عند مسجد الحني، وفي حارة الصوّاجين بالمنطقة الصناعية… لكن الضربة الأشد… كانت في ساحة المتحف.. الساحة التي لا تبعد عن ركننا إلا أمتاراً قليلة.. ركضنا… نكاد لا نشعر بأقدامنا، نريد أن نسبق الألم. انعطفنا إلى مكتبة بورسعيد، الملاصقة للمتحف، نبحث عن أبو زهرة… وجدناه حياً، نحمد الله.. لكن المكتبة كانت تصرخ.. الجدران محطّمة، الزجاج مهشم، الكتب مبلولة بالدم والرماد، والأرفف تبكي سطورها المحترقة.. ثم توجهنا إلى الساحة…
وهناك… كانت جهنم نفسها تستغيث.. أشلاء متناثرة، بعضها معلق على الأسلاك، بعضها غارق في الخضار، بعضها لا يمكن تمييزه.. رؤوس مفصولة بلا ملامح، أطراف تتدلى من العربات، أطفال بأعين مفتوحة وكأنهم يحدقون بالموت ذاته.. الدم سال كأنه ينتقم، اجتاح الشوارع وصبغ الأرصفة بلونٍ لا يُغسل.
الهواء كان خانقاً… مزيجاً من البارود واللحم البشري والرماد.. حتى الصرخات ماتت في الحناجر… الناس يرفعون أشلاءهم بأكياس الخضار… يفتشون بين البندورة عن يد، بين الباذنجان عن إصبع، بين ركام العربة عن بقايا وجهٍ أو هوية.
هناك… بحثنا عن وجهٍ نعرفه.. عمار عزيز.. رجل طيب، خلوق، رفيق المهنة والدرب، ضحكته لا تفارقه حتى في أصعب الأيام.. لم يكن يحمل سلاحاً، ولا طموحاً إلا أن يُطعم أولاده من رزقٍ حلال.. بقي في محله، في ساحة المتحف، لم يغادر… لكننا لم نجده.. لم نجد له أثراً… سوى ركام محل الخضار، وقد اختلطت فيه البندورة بالخيار بالباذنجان بدم عمار.. هكذا كان الإرهاب الذي قصفوه.
هكذا واجهوا الخطر: برشاشات الحقد ضد بسطة خضار، وضد رجلٍ كان سلاحه الوحيد ضحكته.. ثم عدنا… لنُذبح من جديد، لكن هذه المرة، على صفحات الفيسبوك.. رأينا وجوه الخيانة تبتسم… تنشر الانتصار!
شبيحة الرقة، أوباشها، من باعوا دم أهلهم بثمن الذل في حماة واللاذقية وحلب.. يحتفلون بأن جيشهم الباسل دك معاقل الإرهاب.. أي إرهاب؟ هل كانت الخضار صواريخ؟ هل كان عمار عزيز يُهدد الأمن القومي؟ هل كان أبو زهرة يطبع منشورات ضد الوطن؟ هل كانت مكتبة بورسعيد معسكراً للمسلحين؟ نحن الإرهاب؟ نحن من كنا نختبئ كل يوم من الموت؟ نحن من لا سلاح لنا إلا الصبر؟ نحن من احتمينا ببعضنا في ركن الكعكجي؟
أنتم الخونة… من صفّق للقاتل وهو يغرس السكين، من باع الرقة ونام في حضن الذل، من هجّرنا وقتلنا واحتفل بخيبتنا.
لا نُسامح… ولا ننسى.. لن ننسى دماء المتحف، ولا مجازر الصناعة، ولا صدى الطائرات في رؤوسنا، ولا وجوه من جلسوا معنا… من بقي، ومن غاب، من هاجر، ومن استُشهد، من حمل المدينة على ظهره، ومن اختنق بها في المنافي.
كلّهم… يسكنون فينا.. شهداؤنا الذين غادرونا بصمت، وأحياؤنا الذين يجرّون الذاكرة خلفهم كجرحٍ مفتوح.
الرقة لا تنسى.. والفرات لا يسامح.. والألم لم يهدأ بعد.. وسنروي ما جرى… حتى يُحاسب كل خائن، وتُعرّى كل وجوه الشبيحة، وتُقال الحقيقة كما هي: أنكم لستم وطنيين… بل سكاكين في خاصرة الوطن. وسيأتي يوم لا يُشترى فيه الصمت، ولا تُباع فيه الحقيقة… وسنكون نحن من يكتب الرواية… لا أنتم.
واليوم، بعد المجازر والساحات، بعد الأشلاء والرفاق الذين شيّعناهم دون أكفان… نحمد الله.. نعم، لم ننكسر، لم نُساوم، لم نُبايع القاتل، ولم نرتدِ أقنعة الذل.. صبرنا… وانتصرنا. نلنا كرامتنا… واستعدنا وجوهنا من تحت الرماد.
أما أنتم، يا عبيد الكرسي، يا خدم المجرم… فقد وُسم جبينكم بالذل والعار إلى الأبد.. ما من ماء يُطهّركم، ولا ذاكرة تنساكم.
نحن أصحاب الأرض، وأنتم خدم الدبابات.. نحن من واجهنا الموت، وأنتم من قبّلتم قدمه.. ونحن من سنروي الحكاية كاملة… وبلغة لا تعرف الرحمة.
وهذا وعد.
* كاتب سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.