عبدالرزاق بشير الهويدي *
الرقة.. ذاكرة الرماد والدم .....
الرقة: 22 كانون الثاني 2016
مجزرة المشلب.. وعائلة الهنداوي
في تلك الليلة، لم يكن القصف مجرد ضجيج في السماء، بل زلزالاً في الصدور، وارتعاشةً في قلوب الأطفال.
الموت تهدّى من الجوّ على هيئة لهبٍ وقضبان نار.. أكثر من عشرين غارة جوية متتالية، بلا رحمة ولا استثناء.. السماء أطبقت على المدينة، والمدينة ضاقت بأهلها.. البيوت أفخاخ موت، والشوارع مدارج لهروبٍ مستحيل.
الرقة كانت تختنق وتصرخ… ولا أحد يسمع.. الهواء ثقيل، كأن كل نفسٍ فيه يحمل رماداً وأشلاء.. الناس يتراكضون حفاة، يصيحون بأسماء أحبّتهم وسط الغبار… ولا صوت يرد.
النساء يضربن الوجوه، والأطفال يبولون على أنفسهم من شدة الرعب، يغطّون آذانهم، ويغمضون أعينهم هرباً إلى الداخل.
النساء يضربن الوجوه، والأطفال يبولون على أنفسهم من شدة الرعب، يغطّون آذانهم، ويغمضون أعينهم هرباً إلى الداخل.
الرقة لم تكن مدينة… كانت جرحاً مفتوحاً يتنفس باروداً.. قُصفت أحياء بأكملها: الثكنة، سيف الدولة، القطار، المشلب، البانوراما، شارع الأماسي، مطعم إسطنبول، مشفى دار السلام، بناية المطر… كل مكان صار رقماً في سجلّ الموت.. لا مستشفيات، لا إسعاف، لا كهرباء، فقط صراخ ونحيب ورائحة دم لا تُطاق.
كانت ليلة جمعة… لا صلاة فيها، بل نكبة.. لم يُرفع فيها الأذان، بل صوت الإسمنت ينهار فوق الأجساد.
في ركنٍ من حيّ المشلب، بيتٌ صغير دافئ عاش فيه الأب هنداوي الجمعة، مع زوجته الطيبة، وأطفاله: مصعب، مايا، وأحمد… وكانت الزوجة حاملاً.. لكن الغارة سقطت فوق البيت، كأنها تعرفهم.. سُحِق الحلم بأكمله.
وجدوا العائلة في وضعية نوم… لكنهم لم يكونوا نائمين، بل فارقوا الحياة معاً على وسادة من خوف ولهب.. من مات أولاً؟ الأب؟ الأم الحامل؟ الأطفال؟
المجزرة لا تُجيب… فقط تذبح، وتمضي.
وجدوا العائلة في وضعية نوم… لكنهم لم يكونوا نائمين، بل فارقوا الحياة معاً على وسادة من خوف ولهب.. من مات أولاً؟ الأب؟ الأم الحامل؟ الأطفال؟
المجزرة لا تُجيب… فقط تذبح، وتمضي.
تكرّر المشهد في المدينة… مازن الخضر السهو، أحمد الخضر، عائلة عجان الحديد، عزو حميكة… عائلات بأكملها دُفنت تحت بيوتها.
التراب ضاق، والكفن صار من غبار.. كل حيّ في الرقة صار شاهداً على مذبحة.. كل شارع فيه بيت ناقص، وطفل يبحث عن أمه بين الأنقاض.. كل شيء انهار: الجدران، القلوب، الكلمات، الصلوات.
وأنتم، يا من صفقتم للقذائف؟ يا من جلستم أمام الشاشات تعدّون الغارات لا لتبكوا، بل لتحتفلوا بجيشكم الباسل.. ذلك الجيش الذي لم يقتل إلا البيوت، ولم يرفع رايته إلا فوق الجثث.
أنتم خونة… بلا شرف، بلا إنسانية.. لم تبكوا طفلاً، بل تباهيتم بسقوطه.. لم تصلّوا على امرأة، بل صرّحتم أنها إرهابية.. أنتم الزور كله.. أنتم من شرعن المجزرة، وبارك الدم، ورقص فوق جماجمنا.. أنتم اليد التي دفعت الطفل نحو اللهب.. أنتم لا تجهلون الجريمة… أنتم من صمّمها.
لن ننسى… وهذا وعد، وإن نسي العالم، نحن لا ننسى.
المشلب حيّ في الذاكرة.. هنداوي الجمعة حيّ في الضمير.. مصعب، مايا، أحمد… في كل طفل ينام اليوم على خوف لا على وسادة.. زوجته الحامل… في كل أمّ تنظر لبطنها خائفة من غدٍ يُقصف.
المشلب حيّ في الذاكرة.. هنداوي الجمعة حيّ في الضمير.. مصعب، مايا، أحمد… في كل طفل ينام اليوم على خوف لا على وسادة.. زوجته الحامل… في كل أمّ تنظر لبطنها خائفة من غدٍ يُقصف.
أنتم في مزبلة التاريخ، ونحن؟ نحن من عاش، من دفن أحبّته، من حمل الذاكرة.
سنكتب… سندوّن… نروي… نفضح… نلعن… نشهِّد الناس والتاريخ والسماء.
سنسمي الشهداء، ونشير إلى القتلة.
سنكتب… سندوّن… نروي… نفضح… نلعن… نشهِّد الناس والتاريخ والسماء.
سنسمي الشهداء، ونشير إلى القتلة.
لن نسامح… لن نغفر… لن نصمت… لن نخون.
هذا وعد… هذا وعد.
* كاتب سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.