عبدالرزاق بشير الهويدي: حين ضحك الخونة ونام الأبرياء للأبد - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

السبت، 5 يوليو 2025

عبدالرزاق بشير الهويدي: حين ضحك الخونة ونام الأبرياء للأبد

 



عبدالرزاق بشير الهويدي *

حين ضحك الخونة ونام الأبرياء للأبد
مجزرة المشلب - الأربعاء الأول من حزيران 2016
من مجزرة المتحف إلى دوار البتاني …
المشلب ينزف والشبيحة تزغرد.
من صمت أحمد إلى أشلاء عيسى، إلى جسد مأمون على السطح، كانت الرقة تئن والمشلب ينزف، والخونة يحتفلون كأنهم انتصروا على وطن. كلما أُسدِل الستار على مجزرة، ظننا أنها الأعنف، لكن الرقة تفاجئنا بيوم جديد من الجحيم، بمشهد ألم لا يُحتمل. كأن المدينة كُتب عليها أن تموت مراراً، وكُتب علينا أن نحفظ أسماء الشهداء أكثر من الأحياء.

في ذلك اليوم، في طريق العودة إلى حي المشلب، بدا النهار هادئاً كاذباً، كأن السماء تمكر بنا. الطائرات تحوم كغربان الشؤم، تراقب ثم تهاجم. همست للسائق: فلنحتمِ… هناك ما يُحضّر، فأجاب: توكل على الله. لم يُكملها حتى دوى الصوت الأول. قريباً تصاعدت سحب الدخان عند دوار البتاني، دوى الصوت كالرعد، ثم خيم صمتٌ كثيف… الصمت الذي يسبق سقوط المدن. ثوانٍ ثم انفجارٌ أعنف، ابتلع السماء، وترك الناس يركضون كأنهم يفرّون من القيامة. الهلع سكن الوجوه، والشارع صار ساحة للفزع، لا يُسمع فيه إلا النداء والاستغاثة والصمت المحطّم.

وصلنا إلى المشلب… فإذا به خرابٌ يتنفس، وناس كأنهم سكارى. أجساد تحترق، سيارات مدمّرة، حفر تمزّق الإسفلت، ودم ينزف من الأرض كأنها تبكي أبناءها.
الصدمة كانت أكبر من قدرة العقل على التحمل، عيون شاردة وأيادٍ ترتجف تلتقط الأشلاء، أصوات ترتفع بلا وعي وقلوب تبحث عن الأحبة وسط الفوضى. المشهد أكبر من أن يُفهم، أعمق من أن يُروى، يُسكت اللغة ويكسر الصبر.

وبرغم كل هذا الجحيم، كان الناس كخلية نحل، يركضون، يُسعفون، يضمدون، يُواسون، يفتحون بيوتهم، ويخلعون قمصانهم لصنع أربطة للجراح. الشجاعة تولد من بين الأنقاض، والرحمة تمشي بأقدام العراة، والحزن جسد يضم الجميع… لا أحد يسأل: من هذا؟ بل: كيف نُنقذ هذا؟

وفي عمق الجرح، حفرة ابتلعت سيارة كانت لجاسم وسلطان، حاولا النجاة من صوت الطائرات، فكتب لهم الحياة بمعجزة، لكن غيرهما لم ينجُ.

الصمت كان سيد المكان، وكأن البكاء خيانة لهيبة الموت، وكأن الحزن عاجز عن أن يجد ملامحه. 
وسط الركام، جاءت الحسبة سريعاً، وزّعوا ما وزعوا على الجرحى، وصاحوا فوق الأشلاء: كأنهم يحاسبون الضحايا قبل دفنهم، ويُكملون القصف.

في المشفى، أحمد في غرفة العمليات بين الحياة والموت، أما عيسى فقد صار أشلاء فوق سطح لا يعرفه أحد، تفرّق جسده كما تفرّقت أحلامه. وعلى سطح آخر، جثتان ودراجة نارية... شابان يعبران الطريق، لم يكن لهما من الحرب موقف، كان لهما قلب ينبض بالحياة وأحلام صغيرة، لكنّ الحرب لا تسأل أحداً عن مواقفه.. كانا على دراجة نارية، يمضيان بها نحو شيء من الأمل أو ربما نحو اللاشيء... أحدهما كان وحيداً لأمه وأبيه، إنه جرخ عيسى الجرخ من طاوي رمان.. لم تجف دمعة أمه، والسواد رداؤها منذ تلك اللحظة، استشهاده أطفأ نور الحياة وبهجتها، وسكن الحزن في قلبها كجبل. أمٌّ تنتظر عودته منذ ذلك المساء، تنبش في الأخبار وتفتش في الوجوه، ولكن... لا أثر لجسده بين الأشلاء، لا شاهد ولا قبر، فقط الغياب الموجع. أيقنت بعد طول انتظار أن اللقاء سيكون في الجنة، حيث لا موت ولا قصف، بل سلام وعدالة واحتضان لا ينتهي.

ثم جاء النبأ الأشد قسوة: أحمد الهويدي، "حمدوش" كما يناديه أصدقاؤه، المعلّم النقيّ الصامت، الذي احتفل بالأمس بنهاية دورة الاستتابة، اختطفه الموت اليوم بصمت. فرحه تبخّر، وابتسامته تلاشت. أحمد الهويدي، المعلّم الذي لم يحمل سلاحاً، اختُطف بصمت، وترك وراءه دفتر تحضير وابتسامة لم تكتمل.

عيسى العجيمي، الوجه الهادئ، الصوت الخافت، مضى كما عاش: بصمت يليق بالطيبين.
مأمون، الممرّض الذي بنى حلمه في مدينة تنهار، نقل عيادته منذ أيام فقط، لكن الصاروخ لم يخيّب ظنون القاتل، فطار بجسده إلى سطح منزل آخر.

علي الكجوان، وابن أخيه حسن الحرويل، وتامر المرزوق، وعيسى الكجوان، وامرأتان من عائلة مصطفى العبيد… أسماء لم تكن إلا أضواء صغيرة في ليل الرقة القاتم. رجال ونساء عاشوا كغيرهم، يحملون نبض المدينة ويحلمون بيوم آمن. لم يكن بينهم مقاتل، ولا سياسي، بل كانوا أبرياء… كل واحد منهم قصة حياة قطعت على حين غرّة.

قُتلوا عن قصد، عن عمد، لأن وجودهم كان يُزعج آلة الموت، لأنهم كانوا ضوءاً فأطفأوه بالقصف، بالقذائف، بالصمت الدولي، وبخيانة من باعوا الدم بثمن بخس. لن ننسى أنهم كانوا أوطاناً صغيرة، ليس أرقاماً فقط.

ثامر المرزوق، الإمام الصامت في وجه الطغيان، فاطمة الحمادي، الممرضة التي داوت جراح المدينة، فكانت الضحية الأجمل في مهد الرحمة.

لكن المشهد لم ينتهِ… عاد الشبيحة، الذين وقفوا فوق دم المتحف، ليزغردوا فوق جثث المشلب. يرفعون شعارات النصر وكأنهم حرّروا مدينة من أهلها.

أي وطن دافعوا عنه؟ هل كان حمدوش خلية نائمة؟ هل كانت الدراجة النارية دبابة؟ هل كان الممرّض قائد لواء؟ أي قذارة تُبرر قتل معلّم في طريقه، وممرّض في عيادته، وطفل في حضن أمه؟

الرقة تتذكر، والمشلب لا يموت. الضحايا ليسوا أرقاماً، بل وجوه نعرفها، وأسماء نحفظها، ودماً يسري فينا. والوجوه التي صفّقت يوم المتحف، ثم ضحكت يوم المشلب، محفوظة في سجل العار، لا تخرج منه إلا عبر الجحيم.

نحن الشهود ولسنا الرثاء. لن نرثيكم، بل نشهد. لن نغفر، بل ندين. لن نصمت، بل نكتب. لا من أجل الذكرى… بل من أجل المحاكمة.

سنحمل هذه القصص لأبنائنا، لا ليبكوا، بل ليعرفوا من خان، ومن صمت، ومن زغرد فوق المجزرة، ومن قاوم بالصوت والكتابة.

هذا وعدنا… أن نظل أبناء الرقة، لا نحني رأساً، ولا نطوي ألماً، لا نسمح لخائن، ولا نصافح قاتلاً، أن نكون شوكاً في حناجركم، وناراً في سجلاتكم، وقصاصة ورق تفضح وجوهكم كلما حاولتم الادعاء.

أن نكتب حتى تصمتوا إلى الأبد، هذا قسم لا يُكسر، وذاكرة لا تموت، وهذا وعد.

* كاتب سوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.