عبدالرزاق بشير الهويدي *
على ضفاف الفرات، في ليلة صيفية، ينساب القمر فوق الماء كمرآة حزينة، يلمع بين شظايا الليل، وكأن النهر نفسه يبكي على ما فقدناه. الماء يهمس بأسرار الليل، لكنه هذه المرة يحمل صدى الانفجارات، وخوف العصافير التي توقفت عن الغناء، وصرخات الغياب التي اجتاحت المدينة.
أجلس هنا وأفكر بكِ، وأشعر بأن كل موجة تصطدم بالشاطئ تحمل قصة… قصة بيت تهدم، شارع يختفي، وأحلام صغيرة تتطاير مع دخان القصف. لازلت أتخيل وأسمع هدير الطائرات في السماء البعيدة، ورائحة التراب المحروق تمتزج بالنسيم، والليل صامت، لكن صمته ثقيل كصخرة على القلب، ويزيد شوقي إليكِ، إلى دفء حضنكِ، إلى صوتكِ الذي لم يعد يصل إليّ إلا عبر ذكريات متكسرة.
أحبكِ… أحبكِ كما يحب الفرات ضفافه، حتى حين تمزقها الحرب، وأحبكِ كما تحب الأرض المطر بعد الصيف، حتى لو أصبح المطر نادراً، كما أحبكِ كما يحب القلب أملاً صغيراً وسط الدمار. كل ضحكة منكِ كانت قبل الحرب، كل همسة، كل نظرة، أصبحت لي ملاذاً في صخب القصف، وموسيقى تتردد بين حواري المدينة المدمرة.
أشتاقكِ… أشتاقكِ كما يشتاق الأطفال إلى خبزهم بعد حصار طويل، كما يشتاق النهر إلى ماء صافٍ، كما يشتاق الطير لغصنه حين يسود الخراب. أشتاقكِ حين يغيب النسيم، وحين تصمت المياه، وحين يختلط صدى القنابل بذكرياتكِ، فتغدو صورتكِ الوحيدة التي تضيء عتمة قلبي.
أريد أن ألتقي بكِ هنا، على حافة الفرات، حيث تعانق الأمواج الأشجار المتعبة، والدخان يرتفع من المدينة كذكرى مؤلمة، وأتنفس معكِ صمت الليل.
أريد أن أحتضنكِ في صمت كامل، وأترك للنجوم والشجر والنهر أن يكونوا شهوداً على حبي وسط الخراب. أريد أن أرى عينيكِ تتلألأ كما تتلألأ المياه تحت ضوء القمر، برغم كل الرماد والدخان، وأن أسمع صوتكِ كما يسمع السكون بعد انفجار بعيد، يعيد لي الإيمان أن الحب ما زال موجوداً.
في هذه الليلة، كل شيء حولي يذكّرني بكِ… الماء يرقص ويبتسم، النجوم ترسل بريقها وكأنها تقول: احفظي حبه في قلبكِ، والنسيم يحمل همسكِ، يهمس باسمي، يسرقني من عالمي لأضعني في حضنكِ… حيث لا شيء يطفئ نوركِ، ولا حرارة حبكِ، ولا صدى ضحكتكِ.
ابقِي في خيالي… كما يبقى انعكاس القمر على الفرات، برغم كل الحصار، برغم كل القصف، برغم كل الدمار… دائماً حاضر، دائماً مشرق، دائماً أنتِ. ابقِي كما أنتِ، نسيماً على وجهي، همسة في رأسي، ضوءاً في قلبي، ودفئاً لا ينتهي، في صمت هذه الليلة التي تجمع بين الحب والمأساة، بين المياه والرماد، بين النهر والموت… حيث كل شيء حولي يتنفس اسمكِ ويقاوم الغياب.
وفي ختام هذه الليلة، اقبلي لنصلي للغد… نصلي لأمل جديد، لنقاء الأيام، لضحكات تعود، لسلام يملأ شوارع مدينتنا، ولحب يبقى حاضراً رغم كل الدمار، نصلي لأن الفرات سيحمل معه مستقبلاً مشرقاً، ولأننا سنظل قادرين على الصمود والحب والأمل، مهما كانت الليالي مظلمة.
* كاتب سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.