عبدالكريم البليخ *
مازال ظلّ "داعش" يُخيّم على عقول عدد كبير من شباب الرَّقة، كغمامة سوداء لم تنقشع على الرغم من انقضاء زمنها الظاهر. وكأن المدينة، برغم من تحرّرها، مازالت تحمل في أعماقها جروحاً لم تُخاط، وندوباً لم تشف، وآثاراً لاتزال تعيد أهلها إلى أيام مظلمة كانت فيها الرَّقة ـ عاصمة ما سُمِّي بالخلافة ـ نهباً للقتل والقمع والدمار. لقد دفع الأبرياء ثمن ذلك الحكم الدموي، وتعرّضوا لقصاصٍ طالَ الكثير بلا ذنب، وتحولت مدينتهم الهادئة إلى ساحة للتنكيل، وساحة للعبث بالإنسان وكرامته ووجوده.
ومع أن الرَّقة لفظت ذلك الغزو الوحشي، وخرجت من تحت سيوفهم التي لم ترحم طفلاً ولا شيخاً، فإنّ بعضاً من آثارهم الفكرية مازال يتسلّل بين الناس، كرماد ساخن تحت طبقة من التراب. فمازال هناك من يبرّر، أو يَحنّ، أو يصرّ على أن يُبقي ذلك النهج حياً، ولو خافتاً. أولئك الذين غرزوا في قلب الرَّقة خنجراً مسموماً، لم يكتفوا بما نهبوا وخربوا وسبوا وارتكبوا من فظائع، بل تركوا وراءهم من يسير على خطاهم، في قرى قريبة من الأماكن التي شهدت المقاومة ضدّهم، وكأنّ الدرس لم يُستوعب بعد.
لماذا مازال إرثهم يجد من يحتضنه، وعلى وجه التحقيق، في ريف الرقة القريب من مركز المدينة؟ لماذا تظل بعض مظاهر حكمهم حاضرة، كالنقاب الذي فُرض بالقوة، أو اللحى التي تُطيلها الذرائع أكثر مما تطيلها التقوى؟ لسنا ضد الدين، ولا ضد حفظ القرآن أو الالتزام بالسنة، فالدين رحمة، لا سوطاً يُلوَّح به فوق رؤوس الناس. غير أنّ ما رأيناه كان تشويهاً صارخاً لجوهر الإسلام، وانحرافاً عن روحه السمحة. فمتى نتعلم؟ متى نبتعد عن هذه الصور المؤذية التي تستحضر الخوف في النفوس كلما أطلّت؟ يبدو أن بعض القلوب مازالت أسيرة تلك الحقبة، غير قادرة على الفكاك منها أو الاعتراف بمأساويتها.
متى نصحو من ذلك الهذيان الذي أعاد بلادنا إلى عصور القحط؟ متى تنفض الرَّقة غبار تلك الوصمة؟
لقد كانت الرَّقة، على مرّ تاريخها، لقمة سائغة لكل طامع؛ غنيمة سهلة لوافدين من كل الجهات، ومورداً ينهبه كل من عرف الطريق إليها. عاش أهلها، وهم الطيبون البسطاء، على حدّ الكفاف في ظلّ فقر مدقع، تُنهكهم الحاجة وتثقل أرواحهم، حتى إنّ الأزمة السورية جعلت هذه المدينة قناة للألم، لا يكاد رجاؤها يلوح في الأفق. تحوّلت الرَّقة إلى مدينة أشباح، يطاردها الخراب شبه الكامل، كأنّها سُحبت من خارطة الحياة. وجاءت الذريعة جاهزة: "محاربة الإرهاب".. لكنّ ثمن تلك الحرب دفعه الأبرياء الذين شُرّدوا، وباتوا يلتحفون السماء بحثاً عن مأوى يلمّ شتاتهم.
الخراب لم يكن حجارةً تُهدم فقط، بل إرادة تُكسر. تحوّل الناس إلى أشباه بشر، يقتاتون على ما تجود به أرضهم التي لا تمنح الكثير. امتلأت المدينة باللصوص والمرتزقة والقتلة، من كل صنفٍ ولون، الذين أجهزوا على ما تبقى من حياة يمكن أن تستمر، وتركوا أهلها في مواجهة الجوع والعوز ومحاولة البقاء بأقل قدر من الألم.
ومع ذلك، ظلّت الرَّقة ـ برغم محنتها ـ مدينة هادئة في جوهرها، مدينة أهلٍ ذوي طيبة ونجدة، يعرفون الألفة والتوادّ، ويحتفظون بقلوب لا يُطفئ نبضها الخراب. الأحداث أثقلت أرواحهم، نعم، لكنها لم تستطع تغيير معدنهم.
هذه هي الرَّقة، مدينة الرشيد، ومنبت الطبيب والأديب عبدالسلام العجيلي، ومهد المؤرخ والباحث والشاعر مصطفى الحسّون، وبيئة العديد من الأدباء والوجهاء الذين تركوا بصمتهم على تاريخ المدينة المعاصر. لم يكن ابن الرَّقة يوماً مُحبّاً للعنف أو ميّالاً للحقد، بل كان مسالماً، بسيطاً، بعيداً عن التكلّف والمظهرية، محتفظاً بتواضع الأرض التي نشأ فوقها.
لكنّ الحياة أثقلت كاهله، دفعت به إلى هوّة حاجة مريرة، في ظل غياب الخدمات الأساسية وانعدام الأمن وزوال الأمان الذي كان يعيشه. ومع ذلك، يحاول جاهداً أن يبقي رأسه مرفوعاً، وأن يبحث عن مأوى يحفظ ماء وجهه، في مدينة فقدت الكثير ولم تفقد روحها.
ومع كل ما حدث، لا بد أن نطرح السؤال نفسه من جديد، بصوتٍ مرتفع وواضح:
هل انتصرت الرَّقة حقاً؟
هل استطاعت المدن السورية التي ذاقت الخراب والنهب أن تهزم الجريمة والخيانة؟
هل ستقضي الأيام المقبلة على ما تبقى من أفكار داعش بين صدور بعض الجهلة، وتُنهِي ذلك الإرث الذي جعل من مدينة مسالمة أكواماً من الحجر والوجع؟
الرَّقة اليوم تقف، بفضل أنقياء أبنائها، على عتبة عودتها. تعود ببطء، لكنها تعود. تعود لأنها تستحق الحياة… ولأنها، مهما خذلها التاريخ، لا تعرف الاستسلام.
* كاتب وصحفي سوري مقيم في النمسا


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.