بعد عامٍ كامل على انتصار الثورة السورية وسقوط نظام الطغيان، يقف السوريون اليوم أمام لحظة تاريخية نادرة؛ لحظة تتجاوز حدود السياسة لتصل إلى عمق الروح والذاكرة والهوية. إنها ليست مجرد مناسبة عابرة في تقويم الأحداث، بل هي نقطة تحوّل كبرى تفتح الباب واسعاً أمام أسئلة المستقبل، وتعيد قراءة مسار شعبٍ صنع معجزته بيده، وكتب تاريخه من جديد بعد أن حاولت الديكتاتورية محوه لعقود طويلة.
لقد كان انتصار الثورة السورية انتصاراً مركّباً؛ هو انتصار للكرامة على الخوف، وللحياة على آلة الموت، وللمعنى الإنساني على خطاب الطغيان. وفي جوهره كان انتصاراً للإنسان السوري الذي أثبت، برغم كل الجراح، أن إرادته لا تُقهر، وأن روحه قادرة على تجاوز المحن مهما اشتدت. وهذا النصر، على أهميته، لم يكن نهاية الطريق، بل انطلاقته الحقيقية.
سوريا الجديدة… وطن للجميع
أهم ما أفرزه هذا الانتصار هو سقوط نموذج الدولة الأمنية التي جعلت الوطن ملكاً لفئةٍ صغيرة، وبداية عهدٍ جديدٍ تُستعاد فيه سوريا إلى شعبها كاملاً. سوريا اليوم ليست سوريا الحزب أو الطائفة أو الفرد، بل مشروع وطني يتسع لكل مكوّناته: العربي والكردي، المسلم والمسيحي، السنّي والعلوي، ابن المدينة وابن الريف.. هذا التحول ليس شعاراً سياسياً، بل هو الأساس الذي تُبنى عليه الدولة الحديثة. لأن أي مستقبل لا يقوم على المساواة والعدالة والانتماء المشترك سيعيد إنتاج مآسي الماضي مهما تبدّلت الوجوه.لم يكن الطريق إلى النصر سهلاً. فقد دفعت سوريا أثماناً عالية من الدم والدموع، وتفككت الروابط الاجتماعية تحت وطأة الحرب والقمع والتهجير. ولهذا تحتاج البلاد اليوم إلى مصالحة وطنية حقيقية، مصالحة تعيد الثقة بين السوريين، وتضمن العدالة من دون أن تدفع البلاد إلى الانتقام.
العدالة الانتقالية هنا ضرورة وليست خياراً؛ فهي التي تعترف بالضحايا، وتُحاسِب المسؤولين، وتُعيد للمجتمع توازنه الأخلاقي والإنساني. فالوطن لا يقوم على النسيان، بل على المواجهة الشجاعة مع الحقيقة، وعلى القدرة على تضميد الجراح كي لا تبقى مفتوحة على الأجيال القادمة.
الإنسان قبل الحجر
إعادة إعمار سوريا لا تبدأ بالمباني والجسور، بل بالإنسان نفسه: بتعليمٍ حرّ، وصحة نفسية تُعالج آثار الحرب، وإعلامٍ صادق لا يروّج للكراهية، وجامعات تستعيد دورها العلمي بعد أن شوّهتها الرقابة.. وتكمن أهمية هذه الخطوة في أنها تعيد تشكيل الهوية السورية على أساس جديد؛ هوية قائمة على الحرية والمسؤولية والعقل النقدي، لا على الخوف والولاء الأعمى.كما يحمل الشباب السوري اليوم طاقات هائلة قادرة على قيادة النهضة المقبلة. جيل كامل وُلد في ظل الثورة، ونشأ موضوعياً على قيم المشاركة والكرامة، لا على الطاعة والامتثال. وهؤلاء الشباب، ومعهم النساء السوريات اللواتي قدّمن أروع أمثلة الصمود، يشكّلون القاعدة البشرية الأساسية لمشروع البناء الوطني.
من دولة منهوبة إلى دولة منتجة
أحد أهم التحديات هو بناء اقتصاد شفاف وعادل يعيد توزيع الثروة على جميع المحافظات، ويُعيد الثقة للسوريين المهاجرين كي يعودوا باستثماراتهم وخبراتهم.سوريا بالفعل تمتلك مقومات نهوض اقتصادي لافتة: موقع جغرافي محوري، قوة بشرية ضخمة وكفؤة، تنوع اقتصادي بين الزراعة والصناعة والخدمات، جاليات سورية ناجحة حول العالم.
إن تحويل هذه الطاقة إلى خطط عملية سيجعل من سوريا الجديدة بلداً قادراً على النهوض السريع، خاصة إذا ارتبط هذا النمو بمحاربة الفساد وضمان الشفافية.
لا توجد دولة في المنطقة تمتلك رصيداً بشرياً خارج حدودها مثل سوريا. ملايين السوريين في أوروبا والخليج العربي وتركيا وأمريكا يحملون خبرات علمية ومهنية هائلة. هؤلاء ليسوا مهاجرين فقط، بل طاقة مؤجلة يمكن أن تعود إلى الوطن وتسهم في بناء مؤسساته واقتصاده ومجتمعه.
إن توثيق العلاقة مع السوريين في الخارج، ومنحهم دوراً في صياغة المستقبل، سيجعل سوريا الجديدة أكثر ثراءً وأقرب إلى المعايير العالمية في الحكم والإدارة.
قوة سلام ووجه حضاري
بسقوط النظام الاستبدادي تنفتح أمام سوريا فرصة تاريخية لتكون عامل استقرار في المنطقة، لا ساحة صراع.يمكن لسوريا أن تصبح جسراً اقتصادياً بين دول الجوار، وتكون نموذجاً لدولة تخرج من الحرب إلى السلام، تضم مساحة للحوار الثقافي والديني، وتمثل نقطة التقاء بين الشرق والغرب.
إن نجاح التجربة السورية سيعيد رسم التوازنات في الشرق الأوسط، وسيمنح شعوب المنطقة نموذجاً ملهماً بأن التحرر ممكن، وأن بناء دول حديثة ليس حلماً مستحيلاً.
كما أن تراجع منظومة الرقابة وبداية عهد الحرية يفتحان المجال أمام ولادة حركة ثقافية كبيرة تعيد للبلاد وجهها الحضاري؛ المسرح، السينما، الموسيقى، الأدب، والفنون البصرية كلها ستكون أدوات لاستعادة الذاكرة الجمعية وتوثيق الحقيقة، وتقديم صورة جديدة للعالم عن سوريا الإنسان لا سوريا الخوف.
دروس الثورة
أهم درس هو أن الحرية تُنتزع ولا تُمنح، وأن الشعوب قد تُقهر وقتاً، لكنها لا تُهزم.تعلّم السوريون أن الطغيان ليس قدراً، وأن الأمل مهما بدا بعيداً يمكن أن يتحقق.
تعلّموا أن الثورة ليست لحظة، بل مسار طويل وأن النصر الحقيقي ليس إسقاط النظام فقط، بل بناء وطن يحمي الإنسان ويصون كرامته.
إذا كان العام الأول بعد النصر هو عام إعادة اكتشاف الذات، فإن الأعوام المقبلة ستكون أعوام البناء العميق. سوريا اليوم تمتلك فرصة تاريخية لإعادة كتابة عقدها الاجتماعي، وصياغة مستقبلها على أسس الحرية والعدالة والتنمية.
إنها لحظة نادرة… لحظة تستحقها سوريا بعد أن دفعت أثماناً باهظة.
ولعل أجمل ما فيها أنها ليست نهاية رحلة، بل بدايتها الحقيقية.
سوريا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، قادرة أن تكون أملاً لشعبها، وسلاماً للمنطقة، ورسالة إنسانية للعالم بأن الشعوب قد تتأخر، لكنها لا تستسلم.
* كاتب وإعلامي وشاعر سوري مقيم في دبي، عضو اتحاد الكتاب العرب


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.