الجسر المعلق في ديرالزور |
كتب: مازن العليوي
ليست مدينة ديرالزور العائمة على ضفاف نهر الفرات في سورية كأي مدينة، بل هي استثناء في تاريخ المدن، إذ قل أن تجد مدينة منحها الله جمالاً طبيعياً مثلها حتى باتت موقعاً جاذباً للسائحين والزوار، فالنهر يتفرع داخلها ثم يعود إلى مجراه الواحد، وما داخل الشطرين يسميه أهل ديرالزور "الحويقة" والمراد باللفظ المنطقة التي يحيق أو يحيط بها الماء من كل جانب. أما الأشجار فأنواعها كثيرة كالنخيل والغَرب والتوت – يسميه الديريون الفرطوس – وغيرها فتجعل مع ما يوجد من بساتين غناء المكانَ مزداناً بالاخضرار الطبيعي الأخاذ.
والدير كما يحب أهلها أن يسموها، طالما عانت عبر التاريخ بسبب ظروف الأزمنة لكنها دائماً تعود كما كانت وأفضل، وهي لا بد أن تعود كعهدها وجهةً للزوار من كل حدب وصوب حين تنتهي معاناتها الأخيرة، ويرجع الديريون الذين تهجروا أو اغتربوا إلى مدينتهم التي عشقوها كأمّ، وحفظوا مساحاتها شبراً شبراً.
الديريون أسرة واحدة
يختلف أهل ديرالزور عن غيرهم بأنهم على الرغم من عددهم الكبير يعرفون بعضهم البعض كأنهم أسرة واحدة، فلا تمشي في الطريق إلا وتأتيك التحيات والسلامات من اليمين والشمال، مصحوبة بعزيمة على غداء أو عشاء، فالديريون كرماء فوق الوصف، ولديهم نخوة عربية أصيلة متجذرة في أعماقهم. ولو حدث أن زرت أحدهم فإنك لن تكون وحدك مع المضيف، إذ ستجد عدداً كبيراً من المدعوين من الأقارب والأصدقاء، وكل منهم سوف يدعوك بطريقته ويحلف عليك حتى لا تستطيع التملص من "عزيمته"، وإن كان موسم "البامية" فإنك سوف تستمتع بأكل "ثرود البامية"، وتبقى نكهة "الثرود" ألذّ مع خبز التنور.. وإياك أن تستخدم الملعقة، لأنك ستخرق طقساً ديرياً مقدساً، فأكل ثرود البامية يجب أن يكون باليد.مدينة الشعراء والمثقفين
الدير عبر تاريخها كانت مدينة شاعرة، وهي تستحق هذا اللقب، فالأجيال فيها تتوارث الشعر أباً عن جد، ولا تكاد أسرة ديرية تخلو من شاعر مُجيد، ولعلّ ذلك من أسباب تسميتها قديماً بـ"دير الشعّار" أي دير الشعراء.. فكم قدمت "الدير" للإبداع العربي من شعراء تميزوا بمقدرتهم العالية، وليس في هؤلاء واحد لم يكتب عن مدينته ونهرها، بدءاً من الراحل الكبير محمد الفراتي، وصولاً إلى ما بعده من شعراء، وانتهاء بجيل متمكن من مبدعيه المهندسان ناظم العلوش ونبيل حقّي.. وأيضاً الجيل الحالي الذي أتى بعد ذلك.. ولا غرابة أن تجد في ديرالزور المهندسَ شاعراً وأديباً، أو أن تجدَ الطبيبَ شاعراً وأديباً كما هو حال الشاعر الطبيب قاسم عزاوي، وابن عمه الشاعر الطبيب يعرب عزاوي، والشاعر الطبيب درغام سفان.. والأسماء كثيرة جداً. فالمدينة تحتوي في خلاياها عدداً كبيراً من المثقفين والمبدعين في مختلف المجالات من شعر ورواية وقصة ومسرح وفن تشكيلي وخط عربي.. ولو انطلقنا إلى الموسيقيين منهم، لوجدناهم متمرسين مجددين مثل الموسيقي محمد عزاوي.. والأسماء كثيرة من الصعب تعدادها كلها في مقال واحد.."جراديق" ديرالزور ومقاهيها
وأما "الجرداق" وجمعه "جراديق" فهو التسمية المحلية للمطاعم المنتشرة على ضفتي نهر الفرات، ولا تضاهي ديرالزور في سورية مدينة أخرى بعدد المطاعم على ضفة النهر، وفي تلك "الجراديق" يجتمع الأصدقاء من رجال المدينة وتحلو بينهم الأحاديث، بعيداً عن لعب الورق "الشدة" أو "الببّاز" باللهجة الديرية في المقاهي التي تكتظ بها المدينة كواحدة من أكثر المدن الحافلة بالمقاهي أيضاً ويسمي الديريون الواحدة منها "قهوة" وقديما كان اسمها "الجايخانة"، ولأهل ديرالزور عشق للعب "البوراكو" و"البلوط" وغيرهما من ألعاب الورق. وليس كل مرتادي المقاهي من لاعبي الورق، فهناك من يذهبون للقاء الأصدقاء وآخرون لمجرد قضاء وقت فيها، وغيرهم لاستكشاف أخبار المجتمع، فالمقاهي تضم الناس من مختلف الأحياء، لذلك تعد أمكنة تجمع اعتيادي، وعبرها يعرف الناس أحوال بعضهم البعض. ولو حدث أن لم يأتِ أحدهم إلى المقهى فالجميع سوف يسأل عنه لتفقد أحواله خشية أن يكون مريضاً أو يمر بمشكلة.وللمقاهي في الدير تسميات طريفة أحياناً مثل مقهى "كرمز"، أو أسماء متعلقة بأشخاص مثل مقهى "عصمان بيك".
أحياء الدير وبعض معالمها
إن كان حي "الدير العتيق" وهو أساس المدينة الحديثة، قد هدم مع الجامع الكبير قبل ما يزيد عن نصف قرن، فإن الأحياء الأخرى يعرفها أهل الدير ويعشقون طرقاتها وأرصفتها، ومازالت الحميدية والجبيلة والعرفي والرشدية والحويقة والجورة والبعاجين والقصور وغيرها من أحياء باقية في الأذهان.. وحده حي "الكجلان" يتفرد باسم متميز والأكيد أن له قصته التاريخية.. ومثل الأحياء تحضر أسواق الدير المتخصصة كسوق الخشابين وسوق التجار وسوق العطارين وهناك سوق للقصابين وغيرها من أسواق.وللديرين طرافة لا مثيل لها في ابتكار تسميات ليست عند غيرهم، ومن ذلك تسمية بعض الأماكن بأسماء أشخاص، فيقولون "قرنة فلان" أي زاوية فلان.. وتظل تسمية أحد شوارع المدينة بشارع "ستة إلا ربع" هي الأبرز لما فيها من غرابة وطرافة، هو شارع تجاريّ تكثر فيه المحلات، وسبب التسمية يرجعه الديريون إلى أسباب عدة، من أشهرها أنه شارع للعشاق، يتواعد فيه المحبون بتوقيت محدد، وقيل إنه كان مخالفاً للشوارع الأخرى التي كان عرضها ستة أمتار، وتوجد روايات أخرى عن تسمية الشارع.
يضاف إلى ما سبق بعض المواقع التاريخية في ديرالزور كالصالحية بآثارها المغرقة في القدم، وثانوية الفرات العريقة.
أخيراً، ما تقدم ليس إلا غيضاً من فيض عن مدينة ديرالزور، ومن يزورها ذات يوم سوف يتعرف عليها أكثر، وعلى أهلها الذين يتحلون بالصفات العربية الأصيلة، وعلى مبدعيها ممن تخطوا بإبداعاتهم المكان، وغدوا أعلاماً يشار إليهم بالبنان.
ندعو الله ان يفرج عن الدير وعن أهلها
ردحذف