أمان السيد، نوافذ بحرية: أنا، أو لا أحد |
أمان السيد *
ذلك ليس عنوانا لمسلسل مكسيكي، ولا منتجا تسويقيا، وإن كنا نستطيع أن نلبس الموضوع تلكما الحالتين أحيانا، إن غصنا تأويلا، وترميزا.
إنه بعض حديث حول "الأنا" التي تتضخم في الإنسان، فلا تنتج إلا مزيدا من الأنانية، واللااكتراث بالآخر، وترفد المجتمع بكثير من الأمراض النفسية التي تسيطر على مجتمعات تسطحت في الفكر، والعقول حين رفضت الاقتراب من الآخر، ونفرت من التيقن أنها ليست إلا ذرة في جرم كبير، ذرة هي بحد ذاتها جرم ينطوي فيه العالم الأكبر ضمن مزيج ثري جميل تعاضد، وتناغم، حتى خرج بتلك الصورة المتقنة الشفافة!
الوجود الذاتي الخاص
قد يكون الفيلسوف ديكارت في مقولته الشهيرة: أنا أفكر، إذا أنا موجود، قد تزعّم فكرة الأنا في الفلسفة الأوربية الحديثة. العبارة التي هي من جزئيتين تدوران في محور الوجود الذاتي الخاص، والتي تسوق إلى الذهن أن الآخر هو وجود لا يرتبط بالأنا، وبالتالي فإنه المواجه، والضد، وهو الخصم أحيانا، وهو إن لم يماثل أناي في التفكير، والخضوع، فهو في الضفة الأخرى، التي يجوز النظر إليها بعدوانية حادة.لست أرغب في تضخيم هذا الجانب، أو تحميل فلسفة ديكارت ما قد لا يكون فيها، ولا في بال فيلسوفها، ولكن، هنا أنحى منحى مبسطا في استثارة أكثر من موقف إنساني يلحظ فيه تضخم الأنا إلى درجة فاقت الحدود الطبيعية في اعتزاز الآخر بنفسه، وبكبريائه، ومنجزاته، وصارت بالطبع خطرا على صاحبها بداية، ثم على المجتمع نهاية.
شخصيات عالمية متعددة أبدعت، هنا يمكن اعتبار ما قدمته إبداعا، وإن كان جهنميا أحيانا، سواء في الفن، أو الفكر، أو السياسة، أوالاقتصاد بعد أن ألغت الهدف الإنساني من وجود ثرّ التنوع، وانتأت بذاتها، ونرجسيتها في عوالم حملت الشر للغير، وقد يكون نتاج ذلك ما نحياه اليوم من دحر للقيم، وسحق الإنسانية، وتغليب للمادة، وتعشّق النجومية في سبيل فئة ما رأت أنها الأحق بالسيطرة على العالم برمته، فسوّغت لنفسها القضاء على كل من، وما يقف في طريقها، ولا يخدم مصالحها.
من مشاعر إلى أمراض
قد يكون تضخم الأنا نتاج عقد، واضهاد في الصغر، تراكم في مشاعر تحولت فيما بعد إلى أمراض تجلت في سلوكيات عدوانية، هتلر، ستالين، موسوليني، نيرون، قد يكونون أمثلة، كاليغولا الذي نسب إليه قوله: "أنا أسرق بصراحة، ولا أرتاح إلا بين الموتى"، وتيودور هرتزل الذي قال:" إذا حصلنا يوما على مدينة القدس، وكنت ما أزال حيا، وقادرا على القيام بأي عمل، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود فيها، وسوف أحرق الآثار الموجودة جميعها، ولو مرت بها قرون"، وغيرهم ممن قاموا بالحروب، وابتكروا أساليب في الإجرام، وممن تزعوا قديما، ويتزعمون العالم الإنساني حديثا، وأيضا العديد من بشر عاديين ما إن تسنح الفرص لهم حتى تسفر أناهم عن سطوتها، وافتراسها لبشر أقل منهم في القوة، أو الثقافة، أو المجابهة، أو تجاه من كان نصيبهم أن يقعوا في موقف المستخدم، أو الموظف عند صاحب الشخصية تلك التي تفور أكثر، وتكبّ حتى وإن رأت ممن يقابلها اكتفاءه بأن يعدها من السفهاء الذين تجب مداراتهم بالتجاهل، والسكوت.ولا بد أن يشار أنه يقابل الشخصية السادية إن صح الوصف، ويأتي في النقيض لها فئة تتّخذ من التواضع منهجية، وقد تكون وصلت إلى ذلك بعد تدريب، وإصلاح للنفس نتجا عن وعي، وتنوّر، وتثقّف، وتقدير للعقل الهبة الأثمن، والطريق إلى اعتناق الحكمة، وممارستها فعلا، فانبثقت بتواضع يدفعها إلى العطاء، والتضحية دون انتظار المديح، أو الثناء رافضة سياسة الكيل بمكيالين، ولو طلب منها الوقوف عند عبارة ديكارت الشهيرة التي سبقت تفسيرا، لجاء تحليها لها: أفكر إذاً أنا موجود ضمن عالم إنساني يتكاثف بالآخر، وبه يتسع، ويسمو لبناء مجتمع إنساني فاعل، يؤمن بالتعددية، والاختلاف مصدرا للارتقاء، والتميز، ويؤمن أفراده أن ما مُلّكوه من مواهب ومقدّرات، وهبات إنما جاء ليسد النقص في الآخر في سير نحو التكامل الإنساني، ويوقن أن الكمال، والوحدانية هما لله وحده، وإلا لما هزم الله، وأهلك القرى ذات الجهة الواحدة في التفكير، وأعتق المدن من غضبه لاغتنائها تنوعا.
ألدّ الطواغيت
لقاح كوفيد 19 الذي يسوّق له الآن أحد الأمثلة الحية المستجدة عن ذاك التضخم "الأنوي" ذي الحدين، فما يحكى عنه يثير الرعب، والقلق، فمن قائل إن الموضوع برمته كان مرتبا له ليغرس هذا اللقاح في أجساد البشر، وتربح الجهات المتسلطة على العالم بتجارها، وأصحاب رؤوس الأموال فيها المليارات المليارات، مما يفاقم فيهم نار نرجسية يتحول فيها المُلقّح إلى قطعة شطرنج، خاسرة متى أريد لها، أو حصان عجوز يطلق عليه الرصاص متى قدروا له الإفناء، بكبسة كي بورد يتم كل شيء، ومن وراء شاشات ترصد خارطة الجسم البشري بحذافيرها، ودهاليزها، ومن قائل يؤكد أنه وضع لإنقاذ البشرية من وباء التدمير، وإن كانت الرؤية الأولى أكثر تداولا، اللقاح نفسه يتدافع اليوم كثير من المتبرعين في البرازيل لتجربته في أجسادهم لخدمة البشر أمثالهم في تأكيد أن الأنا بيد صاحبها، إن أراد بها استبدادا، أو أراد بها تواضعا.جميل بأن يختم بعض الحديث ذاك بقول الماغوط: "الطغاة كالأرقام القياسية، لابد من أن تتحطم في يوم من الأيام".
أوليس تضخم الأنا من ألدّ الطواغيت، ودرجة السلم الأولى إلى الشرور والآثام في العالم؟!
* كاتبة سورية أسترالية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.