الرقيّ الفكري في ملحمة جلجامش.. مقاربات ومقارنات - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الثلاثاء، 7 يونيو 2022

الرقيّ الفكري في ملحمة جلجامش.. مقاربات ومقارنات

 

ملحمة جلجامش أسطورة تسبق عصرها ومقاربات مع ملاحم أخرى
"جلجامش" .. ملحمة سبقت عصرها






عن إيلاف *

كتب: مازن العليوي

ليست مبالغة لو قلنا إن ملحمة جلجامش التي كتبت في بلاد الرافدين حوالي عام 2100 قبل الميلاد هي الملحمة الأبرز إنسانياً عبر التاريخ، وفيها من الفكر والفلسفة الشيء الكثير، كما أنها تحتوي على حوارات داخلية مع الذات، ورؤى ذات معانٍ سامية، لا تبدأ بمفهوم الصداقة ولا تنتهي بمعنى الخلود، وتكشف عن رقيّ فكري وتفكير ناضج لإنسان الألف الثالثة قبل الميلاد.

كتبت ملحمة "جلجامش" السومرية على أحد عشر لوحاً طينياً بالخط المسماري، وقد اكتشفت في القرن التاسع عشر عام 1853 م في موقع أثري في نينوى في العراق، قيل لاحقاً إنه المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال، وتلك الألواح موجودة في المتحف البريطاني، ومكتوبة باللغة الأكادية، وعليها توقيع شخص اسمه شين ئيقي ئونيني ربما يكون هو من كتب الملحمة التي تعدّ أقدم حكاية كتبت عبر التاريخ.


شخصية جلجامش

تحكي ملحمة جلجامش مغامرات أحد ملوك أوروك في غابر الأزمان، وهو جلجامش الذي اشتهر سواء بالنسبة إلى مآثره التي حققها أو للصعوبات التي تغلب عليها. وشخصية جلجامش هي بالفعل نصف خرافية، واستناداً على الأساطير السومرية كانت والدة جلجامش من الألهة واسمها نينسون وكان والده بشراً عادياً واسمه لوكالباندا، ومن جهة الانتماء فثلثه جاجامش من الآلهة وثلثاه من البشر. وقد مهرته أمه الإلهة نينسون بالجمال، وبحسب الملحمة فإن جلجامش هو الملك الذي أمر ببناء سور حول مدينة أورك ومعبد عشتار. وعلى الرغم من عدم توفر أدلة مباشرة على كون جلجامش شخصية حقيقية إلا أن معظم خبراء الآثار والباحثين في مجال الدراسات الشرقية القديمة لا يعارضون احتمالية كون جلجامش شخصية تاريخية حقيقية.
وفي حال كون جلجامش ملكاً حقيقياً فإن أغلب الظن أنه عاش في القرن 26 قبل الميلاد، وبعض الألواح الطينية السومرية ذكرت اسمه على صيغة بـ"كامش" وليس جلجامش، وإن لائحة الملوك السومريين تؤكد أن مدة حكم جلجامش امتدت قرابة 127 سنة، وبذلك يكون خامس ملوك السلالة الأولى مباشرة بعد الطوفان، وبعد موته نشأت أسطورة حول شخصيته.



أحداث الملحمة:

عاش جلجامش كما جاء في الملحمة في مدينة أوروك فصار ملكها وبطلها، وكانت حياته مليئة باللهو والصيد والبطش بالناس، حتى لم يترك ابناً لأبيه، ولا ابنة لحبيبها، فشكاه الناس للآلهة، فطلب الإله آنو من الإلهة أرورو التي خلقت جلجامش أن تخلق غريماً له ليتصارعا معاً، وتستريح مدينة أوروك من شر جلجامش، فغسلت أرورو يديها وأخذت قطعة من الآجر وبصقت عليها، فخلقت إنكيدو البطل، وعاش في الصحراء، يأكل العشب مع الغزلان، وفي يوم رآه صياد شرير فارتاع من منظره وهرب وتكرر اللقاء نحو ثلاث مرات، فأخبر الصياد أباه بهذا الرجل المفتول العضلات، الذي لا يرتدي ملابس، ومنظره مرعب، فنصحه أباه بأن يذهب إلى الملك جلجامش ويخبره بهذا.


صراع جلجامش مع إنكيدو:

ذهب الصياد يخبر جلجامش أن هناك رجلاً عجيباً انحدر من المرتفعات.. إنه أقوى من في البلاد، وذو بأس شديد.. وهو في شدة بأسه مثل عزم آنو إنه يجوب السُهوب ويأكل العشب.. ويرعى الكلأ مع حيوان البر، ويسقي معها عند مورد الماء، فنصح جلجامش الصياد أن يصطحب معه امرأة عاهرة، تحاول أن تجتذبه بمفاتنها، حتى تسقطه، وعندئذ سيبتعد حيوان البر عنه، فأخذ الصياد المرأة وذهب إلى مورد المياه، وانتظرا إنكيدو حتى حضر، فظهرت له المرأة وأغرته قائلة إنك جميل يا إنكيدو كالإله، فلماذا تجوب البرية مع الحيوانات؟ تعالَ آخذك إلى أوروك. واقتنع إنكيدو فذهب معها إلى المدينة وعلمته كيف يكتسي ويعيش كإنسان وسط الناس، وكيف يأكل الخبز ويشرب المسكر، وأخذ إنكيدو سلاحه وانطلق يطارد الأسود ويصطاد الذئاب ليريح الرعاة. وعندما كلمته عن جلجامش الذي يعتقد بأنه أقوى الرجال، قال لها إنكيدو: إنني أرغب في مصارعته، وفعلاً ذهب إنكيدو إلى المدينة، وتصارع مع جلجامش حتى هدما العتبة وحطما عود الباب وارتج الحائط، وعلى الرغم من أن جلجامش انتصر في النهاية، إلا أنه اعترف بقوة إنكيدو، وتعانق الاثنان وصارا صديقين.

صراع جلجامش وإنكيدو قبل مرحلة الصداقة بينهما


صراع جلجامش وإنكيدو مع خمبابا:

خمبابا هو حارس شجر الأرز (ويرجح أن مكانه جبل لبنان)، ذو هيئة مرعبة، زمجرته كالطوفان، وفمه كالنار، ونفسه الموت الزؤوم، الكل يرتعبون من مجرد اسمه، فأراد جلجامش أن يقتله ليصنع له اسماً، ويصير ملكاً على كل البلاد، ولم يستجب جلجامش لتحذير إنكيدو ولا لشيوخ أوروك، فقال له شيوخ أوروك "ليكن معك إلهك الحارس"، وصلى جلجامش إلى الإله "شمش" طالباً معونته، فلم يطمئنه الإله، فأسرع جلجامش إلى أمه الإلهة "نينسون" التي صعدت إلى الإله "شمش"، وأحرقت أمامه البخور وقدمت القربان، فاستجاب لها وقال "شمش" لجلجامش أسرع إلى خمبابا قبل أن يختفي في الغابة، وقبل أن يلبس دروعه السبعة، فقد لبس واحداً منها فقط، فأمسك جلجامش بيد إنكيدو وتوغلا معاً في غابة الأرز كالثور الوحشي، واحتدمت المعركة، وانتهت بقتل خمبابا.

صراع جلجامش وإنكيدو مع الثور السماوي:

بعد أن قتل جلجامش وإنكيدو خمبابا عادا إلى أوروك ولبس جلجامش التاج، فأعجبت به الإلهة عشتار، وطلبت الزواج منه، ووعدته أنها ستهيئ له مركبة ذهبية تقودها الزوابع، وستجعل الكهان يقبلون قدميه، وينحني أمامه الملوك والأمراء، ولكن جلجامش رفض طلبها لأنها غدرت بكل من أحبتهم قائلاً إني لن أقترن بك، أنتِ لستِ أكثر من موقد ينطفئ عند ملامسته الجليد، أنتِ كالباب الناقص لا يصد عاصفة ولا ريحاً، أنتِ قصر يتحطم عليه الأبطال، ولما سمعت عشتار جلجامش غضبت وصعدت إلى أبيها الإله آنو وأمها الإلهة آنتو، وطلبت الثور السماوي لينتقم لها من جلجامش وإلا فإنها ستحطم باب العالم الأسفل، وتقيم الأموات حتى يأكلوا الأحياء. فقال لها أبوها آنو إن أعطيتك الثور السماوي فستمر بلاد أوروك بسبع سنين عجاف، لا يبقى فيها غير التبن، فيجب أن تجمعي الحبوب بوفرة استعداداً لهذه المجاعة، فأخبرته أنها فعلت هذا، فأعطاها "الثور السماوي" الذي شرب من النهر سبع جرعات فجف ماؤه، وعلى خواره انفتحت ثغرة وقع فيها مئات المحاربين، وهكذا خار ثانية، وفي الخوار الثالث انفتحت ثغرة بجوار إنكيدو فوقع فيها، ثم قفز منها وأمسك بقرني الثور، فرشّ الثور الزبد في وجهه، وضربه بذنبه الغليظ، فاستنجد بجلجامش، وتمكن الاثنان من قتل الثور، فأخذت عشتار تنتحب وتنوح، فقذفها جلجامش بفخذ الثور قائلاً: لو أمسكتُ بك لقتلتك مثله. وخرج جلجامش بعد انتصاره على الثور السماوي قائلاً لوصيفات قصره: من هو الأجمل من بين الشباب؟ من هو الرائع بين الذكور؟ ويأتيه الرد: إنه جلجامش الأجمل بين الشباب، إنه جلجامش الرائع بين الذكور.

موت إنكيدو وطلب جلجامش الخلود:

بعد أن قتل جلجامش وإنكيدو الثور السماوي غضبت الآلهة، وقال آنو لإنليل: لماذا قتل جلجامش وإنكيدو الثور السماوي، وقتلا أيضاً خمبابا؟ يجب أن يموتا، فقال "إنليل" يموت إنكيدو أما جلجامش فلا يموت، فاعترض الإله شمش قائلاً لإنليل: أليس بأمرك قتلا الثور السماوي وخمبابا؟ فلماذا يموت إنكيدو البريء؟ فثار إنليل على الإله "شمش" قائلاً: إنك في يوم كنت تنزل إليهما، وكأنك رفيق لهما.
وتعرض إنكيدو لمرض شديد، وأخذ يشتم الصياد والمرأة اللذين أخرجاه من حياته في البرية، وبكى أمام الإله شمش طالباً النقمة للصياد قائلاً لشمش "دَمِّرْ رمحه وقلَّل من قدرته، فلتكن حصته أمامك ضئيلة، وبدلاً من أن تدخل الطريدة شباكه، تخرج منها مثل سحابة، وقال للمرأة التي أخرجته من حياة الصحراء: تعالي إلى هنا أيتها البغي لأحدد لك قدرك.. سأنزل بك لعنة كبرى، وستحل عليك لعنتي فوراً، إنك لن تقيمي بيتاً يجلب لك السعادة.. ولكن الإله شمش اعترض على إنكيدو قائلاً له: إن هذه المرأة هي التي أطعمتك الخبز الذي يليق بالآلهة، وقدمت لك الجعة الناعمة التي تليق بالأمراء، وألبستك رداء فخماً، وجعلت لك جلجامش الجميل رفيقاً. إن أمراء الأرض يقبلون قدميك، فهدأت ثورة إنكيدو، وخاطب المرأة قائلاً: وأنتِ يا بنت الهوى تعالي لأحدد لك قدرك، وليباركك فمي الذي سبق وشتمك، وليمجدك الحكام والأمراء.. ويعطيك الحجر الأسود الكريم واللازورد، بأقراط من ذهب مطروق يملأ حضنك.
ثم اشتد المرض على إنكيدو، ورأى حلماً قصه على صديقه جلجامش الذي لم يفارقه قائلاً: حلمت بمخلوق عجيب يداه تشبهان قوائم الأسد، وأظافره تحاكي مخالب النسر، فأمسكني بخصلة شعري، وحملني إلى الجحيم، فاكتست ذراعاي بالريش وكأني طائر، فأمسك بي وقادني إلى مسكن مظلم، حيث لم يكن لمدخله مخرج، إلى الطريق الذي لا رجوع منه، إلى الجحيم. ورأيت الناس كالطيور يلبسون أردية من الريش حتى الذين حكموا الأرض، والأنبياء والقديسون والوزراء، يأكلون الطين، ورأيت ملكة الجحيم "أريشكيجال" وأمينة سر الجحيم "بعلي سيري" تركع أمامها.
وبعد نحو اثني عشر يوماً مات إنكيدو، فبكاه جلجامش بحرقة، وحزن عليه حزناً شديداً، وبعد هذا أهمل شعره، وارتدى جلد أسد وهام في البراري، وهو في ثورة داخلية ضد الموت لأنه لا يريد أن يموت، وقرر أن يذهب إلى أوتنابشتيم بطل الطوفان ويسأله كيف حصل على الخلود.


رحلة جلجامش للحصول على الخلود:

بدأ جلجامش رحلته إلى أوتنابشتيم، فمر بسبع عقبات شديدة وهي:
عندما بلغ جلجامش ممرات الجبال مساء، ورأى الأسود تملكه الرعب، فصلى للإله "سين" إله القمر، وكانت الأسود تمرح مسرورة في ضوء القمر، فرفع جلجامش فأسه، واستل سيفه وانقض على الأسود فمزقها إرباً.
عندما وصل جلجامش إلى أسفل جبل "ماشو" العظيم المضاء بنور الشمس، وكان يحرس الباب بشر كالعقارب، ارتعب جلجامش واصفر وجهه فزعاً، وخاطب الرجل العقرب سليل الآلهة جلجامش: لماذا حمَّلت نفسك عناء هذا السفر البعيد وأتيت إلى هنا أمامي؟ وبعد أن اجتزت الأنهار ومعابرها العسيرة، أريد أن أعرف إلى أين تقودك طريقك؟ فأجاب جلجامش الرجل العقرب: إنني قطعت طريقاً طويلاً للوصول إلى أوتنابشتيم، لأسأله عن سرد الخلود، ولغز الحياة والموت.
فقال الرجل العقرب: يا جلجامش لم يقطع قبلك رجل مثل هذا الطريق، ولم يرَ أحد حتى الآن أغوار الجبال، ثم شجعه الرجل العقرب قائلاً: اذهب ولا تخشَ شيئاً بعد الآن، لقد أوضحت لك عن الجبال التوائم، فلتقدك سالماً معافى إلى منتهى رحلتك، لأن باب الجبل مفتوح أمامك.
دخل جلجامش إلى طريق الشمس، وبعد سير ساعة اختفى النور، وواصل جلجامش مسيرته عبر ظلام كثيف، حتى إنه لم يعد يرى شيئاً. بعد تسع ساعات شعر بالريح تلفح وجهه، ثم سار عشر ساعات مضاعفة فأشرق عليه النور، وبعد اثنتي عشرة ساعة مضاعفة صارت الأرض منيرة.


في حانة سيدوري

وصل جلجامش إلى غابة الأحجار والمعادن، فرأى أشجاراً تحمل عقيقاً أحمر، والعنقود يتدلى لمَّاع المنظر، واللازورد قد أورق، وهو يحمل ثماره ضاحكاً، فقطع هذه الغابة وواصل سيره.
سار جلجامش ساعات مضاعفة، وهو يغطي ظهره بجلد الحيوانات إلى ساحل البحر، فوصل إلى حانة (سيدوري) وعندما رأته صاحبة الحانة أوصدت الباب وأحكمت غلقه بالمزلاج، فقال لها جلجامش: يا صاحبة الحانة، ماذا رأيتِ حتى أغلقتِ مصراعك وأوصدتِ بابك؟ إني سأكسر مزلاجك إذا أوصدتِ الباب في وجهي.. أنا جلجامش الذي قتل الثور الهابط من السماء، وفي الغابة قتلت من كان يحرسها، صرعت "خمبابا" الذي كان يسكن غابة الأرز، وفي الجبل قتلت أُسوداً.
فقالت له صاحبة الحانة: إن كنت أنت الذي أمسك بالثور الإلهي وقتلته، فلِمَ ذبلت وجنتاك ولاح الغم على وجهك؟ وعلام تملك الحزن قلبك وتبدلت ملامحك؟ وكيف لفح وجهك الحر؟ وعلام تهيم على وجهك في البراري؟
فأجاب جلجامش: إذا كان وجهي قد امتقع، وذبلت وجنتاي، وامتلأ قلبي أسى.. فذلك لخوفي من الموت.. أين صديقي إنكيدو الذي كنت أحبه؟ لقد أصبح شبيهاً بالطين.. لم أسمح لهم بدفنه، حتى أرى إن كان صديقي سينهض على وقع صراخي، سبعة أيام وسبع ليالٍ، إلى أن سقط الدود من أنفه، وبعد موته لم أذق طعماً للحياة.. والآن يا صاحبة الحانة وقد رأيتُ وجهك، أيمكنني ألا أرى الموت الذي لا أنفكّ أخافه؟


الطريق إلى أوتنابشتيم

أجابت صاحبة الحانة: يا جلجامش إلى أين أنت سائر؟ إن الحياة التي تريدها لن تجدها، لأنها لما خلقت الآلهة البشرية، قدَّرت لها الموت، واستأثرت هي بالحياة الأبدية.. أما أنت يا جلجامش فلتكن معدتك مملوءة، واسترسل بالفرح ليل نهار، وبالسرور كل يوم.. ارقص ليل نهار واعزف الموسيقى، واجعل ثيابك نظيفة زاهية، واغسل رأسك واستحم في الماء، وانظر إلى الطفل الذي يمسك بيدك، وأفرِح زوجتك التي بين أحضانك، هذا هو كل ما تستطيع البشرية عمله.
قال جلجامش: والآن يا صاحبة الحانة، أين الطريق إلى أوتنابشتيم..؟ بالإمكان أن أجوز البحر، وإلا سأعود إلى البراري.
قالت صاحبة الحانة: ليس هناك من معبر آخر، ولا أحد من زمن بعيد سبق له أن عبر البحر.. من أين يا جلجامش تستطيع أن تعبر البحر، حتى تصل إلى مياه الموت ماذا تعمل؟ يا جلجامش يوجد هنا "أورشنابو" (سور سنابو) ملاح أوتنابشتيم.. إن لديه تمثالين من حجر، وها هو الآن في الغابة يجمع الزحافات، اذهب كي يرى وجهك، وإن أمكن فاعبر معه، وإلا فعد أدراجك..
حمل جلجامش سيفه، واخترق الغابة كسهم، حتى التقى بأورشنابو الذي سأله عن حزنه الشديد، فشرح له جلجامش بالتفصيل قصة موت صديقه إنكيدو، وسأله جلجامش أن يدله على أوتنابشتيم، فطلب منه أورشنابو أن يقطع 120 عصا من الغابة طول كل منها 30 ذراعاً، وأن يطليها بالقار، ففعل جلجامش هكذا.
صنع جلجامش السفينة البدائية، واصطحب معه أورشنابو، وأبحر في مياه الموت، وحذر أورشنابو جلجامش لئلا تمس يده مياه الموت، ونزع جلجامش ثيابه ونشرها بيديه كأنها شراع..
وأخيراً وصلت السفينة إلى أوتناشتيم الذي سأل جلجامش عن سبب حزنه الشديد، فحكى له جلجامش كل شيء، فقال له أوتنابشتيم: لماذا يتملكك الضيق إلى هذا الحد يا جلجامش؟ أنت الذي جسدك من مادة الآلهة والبشر، أنت الذي يعاملك الآلهة وكأنهم أمك وأبوك، وأخذ أوتنابشتم يسدي النصح لجلجامش لقبول الفلسفة الواقعية، وحكى أوتنابشتيم لجلجامش قصة الطوفان بالتفصيل، وامتحن أوتنابشتيم جلجامش، بأن طلب منه أن لا ينام ستة أيام وسبعة ليالٍ، ولكن جلجامش فشل، وأخذته سُنة من النوم، فقال أوتنابشتيم لزوجته: انظري هذا الفتى الذي ينشد الحياة، والنعاس كالضباب ينتشر فوقه، فقالت له: المس هذا الرجل لكي يستيقظ ويعود من حيث أتى سليماً معافى.


أوتنابشتيم وسر الخلود

وطلب أوتنابشتيم من أورشنابو أن يصطحب جلجامش كي يغسل شعره المتسخ ليصبح نظيفاً كالثلج، ويطرح عنه جلود الحيوانات التي يرتديها في البحر، ويلبس حلة جميلة، ويصنع عمامة فوق رأسه، وحدث هذا، ثم ركب جلجامش السفينة ليعود إلى وطنه.
فقالت زوجة أوتنابشتيم لزوجها: لقد أتى جلجامش إلى هنا وقاسى المشقة والتعب، فماذا تمنحه وهو عائد إلى بلاده؟
فقال أوتنابشتيم: يا جلجامش.. سأكشف لك عن سرّ، وأقول لك ما لا يعرفه سائر البشر، فالأمر يتعلق بنبتة تنبت في البحر جذرها الشوك، إنها كالورد شوكه يغز في يديك، فإذا ما حصلت على هذا النبات، تكون قد حصلت على الحياة الأبدية.
وما إن سمع جلجامش هذا القول، حتى ربط رجليه بأحجار ثقيلة، وألقى بنفسه في البحر، وغاص في الأعماق، واستولى على النبتة وإن كانت قد وخزت يده، وقطع الأحجار الثقيلة من قدميه، فقذفه البحر إلى الشاطئ الذي لم يلبث أن غادره.
فقال جلجامش لأورشنابو الملاح: يا أورشنابو هذه النبتة ضد الكرب، وبها يصل إلى كامل الشفاء. أنا أرغب أن آخذها إلى أسوار أوروك، وسأشرك الناس معي في أكلها وهكذا أختبرها، وسيكون اسمها: عودة الشيخ إلى الحياة..
وبدأت رحلة العودة إلى أوروك، وفي الطريق رأى جلجامش بئراً مياهها باردة، فنزل إلى البئر ليغتسل في مائها.. شمت حيَّة عرق الثياب، فخرجت من الأرض واختطفت النبتة، وسرعان ما نزعت جلدها عنها، فجلس جلجامش يبكى.. لقد ضاعت كل أتعابه هدراً، وأخذ ينتحب ويقول: مِن أجل مَن يا أورشنابو كلَّت يداي؟ ومن أجل من استنزفت دم قلبي.. لقد حققت المغنم لأسد التراب. وأوصل أورشنابو جلجامش لمدينة أوروك، فعاش جلجامش وأنجب ابنه أوننجال، وحكم بشكل عادل مئة وستاً وعشرين عاماً وهو سعيد، وعمل على نشر المدارس والمعرفة، ثم مات وخلفه ابنه أوننجال.

قراءة ومقاربة

تكشف ملحمة جلجامش عن التفكير المتطور لإنسان الألف الثالث قبل الميلاد ورغبته الجارفة في التمسك بالحياة. ومن رسائل كاتبها أن الخير أقوى من الشر داخل الإنسان، ولذلك تفوقت نزعة الخير لدى جلجامش عندما حصل على نبتة الخلود فلم يستأثر بها لنفسه بل قال "سأحملها إلى أوروك وأجعل الشعب يأكلها". وقبلها تصاحب جلجامش الذي يمثل الشر مع إنكيدو الذي يمثل الخير، برغم انتصاره عليه، فتحولا إلى قوة جبارة، انتصر بها الكاتب على إرادة الآلهة "المصطنعة" بقتل مارد غابة الأرز والثور المجنح.. وهنا رسالة أخرى يقول فيها الكاتب لإنسان المنطقة إنك أقوى من آلهتك، فتمرد عليها ولا تخف.
وهناك رسالة أخرى تفيد بحقيقة الموت المطلقة للإنسان، وفشل جلجامش برغم كفاحه الشديد ومروره بالأهوال في تغيير مصيره الإنساني المحتوم فهو بشر في جزء منه، ينتهي بشعور هادئ بالاستسلام لهذه الحقيقة.


كيفية اكتساب الخلود

ولأن كلَّ إنسان فان.. فقد بثّ الكاتب رسالة أخرى بعد بكائيات جلجامش وحزنه على موت إنكيدو، وهي كيفية اكتساب الخلود. ذلك الهاجس الذي سيطر على عقله إثر إدراكه أنه سيموت كصديقه، وما من مهرب إلا بـ"الخلود".
وأما الخلود في فكر كاتب الملحمة، فهو رسالته التي قال فيها إن جلجامش عرف بعد أن فقد نبتة الخلود أن الموت أمر حتمي للإنسان، والخلود يأتي بعمل الخير، فعاد إلى أوروك وبنى سورها الكبير وظل يعمل الخير إلى أن مات.
وفي مقاربة لغوية نجد أن الأفعى بعد أن أكلت نبات الحياة، تجدد جلدها، أي عاد شبابها، فصار اسمها "حية" في ثقافتنا، لأن نبات الحياة منحها العيش الطويل.


مقارنة مع الملاحم الأخرى

في الرامايانا ملحمة الهند الكبرى، لولا مساعدة الإله القرد هانومان وجيش القردة لما تمكن الإله راما من الانتصار وإنقاذ الأميرة سيتا من الشرير "رواج" بعد تآمره مع الإله راون المتخاصم مع راما. بينما في الإلياذة والأوديسة خضع الإنسان لمشيئة آلهة الأولمب التي ابتدعها، وحين قرر مجْمعُها أن يقتل أخيلُ هيكتور حدث ذلك، وسقطت طروادة وقُتل رجالها واستبيحت نساؤها.. ولا يعني هذا أن "هوميروس" أقلُّ شأناً في الكتابة من صاحب جلجامش، فهو ناقل لرواية تناقلتها الأجيال.
والمقارنة بين الملاحم هنا عن الرؤية البشرية للآلهة في كل منها، فهي في الهند واليونان استسلام للآلهة، أما في ملحمة "جلجامش" فالإنسان أقوى من الآلهة التي اصطنعها، وفيها يقترب الكاتب من عقيدة التوحيد رافضاً تعدد الآلهة، وأهم ما يميز ملحمة "جلجامش" عن غيرها أن أحداثها وإسقاطاتها تدور حول شخصية تاريخية حقيقية، بينما سعى غيرها إلى تمجيد الآلهة وروما وتخليد حروب هندوسية.



الخاتمة:

تحمل ملحمة جلجامش تراثاً إنسانياً يدعو إلى القضاء على الشر، وينشد الأمن والسلام والعدل. وقد مزجت الملحمة الحقيقي بالأسطوري، والواقع بالخيال، وكانت واقعيتها مليئة بالحكمة، وخيالها مشبع بالرمزية.. هي واقعية من حيث تناول الإنسان حياة وموتاً، وهي رمزية لأن أحداثها المفرطة ذات دلالات عميقة، وأسطورتها ذات مرامٍ بعيدة، فالصراع مع الثور السماوي الهائج، ومع المارد «خمبابا» إنمّا ترميز إلى هدم الإنسان للحواجز التي تعيق تواصله مع أخيه الإنسان، وإلى الصراع بين الخير والشر.
باختصار، هدم كاتب ملحمة "جلجامش" فكرة سيطرة الآلهة على البشر، قبل ظهور الأديان السماوية. ودعا الإنسانَ بطريقة غير مباشرة إلى "ربيع سومري" قبل ما سمّي بـ"الربيع العربي" بخمسة آلاف عام، واستخدم في دعوته للتمرد على مجْمع الآلهة إسقاطاتٍ تنمّ عن عبقرية سبقت عصرها بآلاف السنين، فيرفض "جلجامش" إغواء "عشتار".. ويتغلب على "إنكيدو" الذي أرسلته الآلهة لقهره.. ويجعلهما الكاتب يتصادقان نكاية بتلك الآلهة المُختَرَعة التي هَزَم جلجامش وإنكيدو مشيئتَها بعدها بقتل الثور المجنّح والمارد "خمبابا".


قائمة المراجع:

ـ ملحمة جلجامش، طه باقر، ط4، بغداد 1980
ـ جلجامش، فراس السواح، سومر للدراسات والنشر، نيقوسيا، قبرص، 1987.
ـ ملحمة جلجامش، موقع المعرفة 
ـ فلسفة الخلود في ملحمة جلجامش، صحيفة الوطن السعودية، مازن العليوي، 3 مايو 2012.
ـ الربيع العربي على طريقة جلجامش، صحيفة الوطن السعودية، مازن العليوي 26 ابريل 2012.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.