عمر الحمود: امرأةٌ يبتسمُ المكانُ بوجودها - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الثلاثاء، 8 أبريل 2025

عمر الحمود: امرأةٌ يبتسمُ المكانُ بوجودها

 


عمر الحمود *

يقولون: هي إشراقة فجر، وبسمة ثغر، وهمسة شعر.

وأضيف قولاً على قولٍ: هي فراتٌ كبير، وبقيّة النساء روافد صغيرة، وهي مدينةٌ وردية، وبقية المدن أسماء على خرائط الجغرافية.

اختلسَت النظرَ إليّ بصمتٍ وحياء، تريد سرقتي منّي، فرميتها بإشارة الرضى، وتأهّب ماردٌ في عينيها، وقال: لبيك لبيك ياسيدتي، أنا خادمٌ بين يديك، إنْ شئتِ جعلتُ كبارَ الرجال أسرى بين يديك.

ولم أرتجفْ خوفاً كما كنتُ أفعل في عهد الطفولة، حين تروي (حبّابتي) حكاياتٍ عن العفاريت، وخرافاتٍ عن الجان، تلازمني حوادثها في الظلام، وتجعلني أخافُ من ظِلّي، بل أخذتْ كلّي رعشة فرح خفيّة، تُشابُه فرحة غريبٍ منفي وجدَ صديقاً في منفاه، وتجلّى الماردُ ملاكاً أخضر، ولو كنْتُ على علمٍ بكلمة سرّه، لأمرته بتخليدي ترتيلة شوقٍ على لسانها، أو يختطفني أسيراً إليها، فأنجو من عزلةٍ قاتلة تُطبق على أنفاسي، وتخيط لي كفناً في الخفاء، وفي غفلةٍ يحتويني، ولا(بجايات) يمزّقن الثياب، ويُدمين الخدود حزناً عليّ، ولا لي بــــ( النزل خيّة) تترحّم عليّ.

ولاتهتزّ المرأةُ الوقور، تتابعني بصمتٍ، والصمت لغةٌ أفصح من بيان عند العارفين، تحرّكُ فيّ إرثاً باذخاً من الهوى والجنون، فأدوخ فيها، وأفرغُ الكأس بعد الكأس، وأتشهّى سكرةً كبرى، تأخذني من صحوي، وتنتشلني من مرارة الواقع إلى حلاوة الحلم، فأعزف، وأغنّي للندامى، وأطيافٍ من الأمس ما يرد إلى ذهني النشوان من شعر أندلسٍ، ضيّعها العربي حين استعان بالغريب على القريب:

ياخليل الروح هلاّ زرتنا .. في شروق الشمس، أو في المغرب
أو فزرني في منامي علّنا .. نلتقي لو في زوايا الحُجب

وعندما تشوّه البحّة صوتي، أو ينهدّ حيلي، ألوذ بوجع الكتابة الممتع على ضوء شمعة، والكتابة إنْ لم تكن رقية لإبعاد قبحٍ، أو تعويذة لدحر شرٍّ ، أو حريرية أنيقة كما تشتهيها القوارير، فهي حبرٌ ميت، تابوته القرطاس، وقبره النسيان، وأعترف بغمغمةِ عاشقٍ (مشتهي ومستحي) بأنّني كنتُ قبل زمان الوصل بها قصيدة مكسورة الوزن، أو دُمْية بين ضلالاتٍ وغوايات، أمضي معها، وليس لديّ ما أخسره، واليوم أنا تائبٌ، ونياتي طيّبة، وأطمع بصكّ غفران يمحو خطاياي، ويوازيه صكّ محبّة، يرشدني بعد تيهٍ، ويهديني إلى صراطٍ سوي، يُدخلني فردوس جنّتها.

وبعد اعترافي أسطّر لها رسالة: سأدمنُ انتمائي إليك، وأكتبك عشقاً، وشوقاً.

ولتجفّ بعد هذا أقلام الشغف.

وابتعدي، أو اقتربي، لافرق، فليس لي إلّاك، وأنا على يقينٍ بأنّ لامتسع لغيري في قلبك، ومنك منابع التكوين الأولى، وإليك مصبّات الخواتيم، ومآلات النهاية، وبين هذا، وذاك مواسم للخصوبة، والتجدد، يحضر فيها ما غاب منّي، وأعيد اكتشاف ذاتي من جديد، وأرتّب فوضى أوراقي، وتكون رسولي إليك، ونصّ الرسالة: "يا أنت التي فيها أشياء منّي، حياتي مرهونة لك، لامفرّ".

وأذيّلُ كلماتي بتوقيع أناي العاشق.

وتسعد الريحُ، وتنتشي، وكأنّها ترى الإله (دموزي) يهجر عالم الموتى، ويهتف للحياة مثلما تزعم الأسطورة، ومع هبوب الريح ينتشر سرّي، بنمائم للنهر، والمدينة، والأشجار، والعصافير، فيجد كلٌ منهم أمراً يخصّه في حكايتي، ويظنّ أنّه المتيّم الوحيد بها، فيبتسم النهرُ كرنفال ماء، وألوان، وأنوار، وتستعيد المدينة نضارتها المسروقة، وتعود شموس دفء، وأقمار وئام، وتنفض الأشجار هموم القيظ، وتوقد البخور، وتميس راقصة كأمٍ في عرس ولدها، وتطير عصافير الفرات أسراب عطر تُظلّ العاشقين، وتفتح للآخرين مسالك تتسع للفرح.

* كاتب وروائي سوري.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.