وطفة الفرات *
"حلم خرسة.. دفنت أسرارك بصدري
وعشت وياك بين الـ اااخ والمو ااااخ …
……. والمدري
تعال اتدفى بـ أعذارك..
مو دلّة واعاشر دوم بس نارك" !!
ببالغُ الحنين ونشيد الصمت العالق في فم الغيم، ها أنا أبعثُ إليك ما لم يُبعث، وأكتبك كما تُكتب الخرافات في هوامش التكوين.. كأنك سطر تاه من سِفْرِ الخلق، فاستفاقَ في صدري على هيئة وجع يشبه الحب.
كنتُ أمتلئ برسائل لا تجرؤ على الخروج، كأنَّ صدري طابع بريد تجمَّد في موسم الجليد، وأنتَ ساعي الكلمات الذي ضلَّ دربه إلى صندوقي الأزرق، فأضاعني في الطريق، وتركني أتهجّى الغياب كما يتهجّى الأعمى ليله.
كل جملة كنتُ أسطرها إليك كانت نهراً من نار، تُغرقني حيناً، وتبعثني رماداً من وهجك حيناً آخر.. وأنا أكتبك كما يُكتب الأنبياء في سِفْرِ الوجع، كأنك قُبلة سقطت من فم السماء
وتشظّتْ على حجر النسيان.. فصار طيفك صدى لا يُطفأ، وحنينُك موسماً لا يرحل.
أ تَعلم؟ كنتَ تأتيني كل ليلة بلهجةِ المدنِ الغريبة، تتكئُ على شرفتي كمنفى صغير، وتنام في قلبي كما تنام الأوطان في ذاكرةِ اللاجئين، كأنّك البلاد الوحيدة التي لا تُفتحُ جوازاتُها
إلا لمن فقدوا الوطن واللغة والاسم.
إلا لمن فقدوا الوطن واللغة والاسم.
أردتُ أن أقول لك إنني وجدتك في كل فجر تأخر، وفي كل حلم انكسر عند انتصاف العُمر، وفي كلّ ملامحِ عابر لا يُشبهك.. لكنه يُشبه وجعي.. إلا أنني التزمتُ الصمت.. هو صمت بحجم القيامة، صمت يشبهُ ما تلبسه الأشجار حين تُقطف عنها الأوراق، صمت الناجين من المجازر الذين لا يتكلمون لأنّ اللغة لم تَعُد تَسع الفجيعة.
أخفيتك في جملة ناقصة، في سطرٍ يتيم من دفتر طفولتي، في أغنية عراقية مكسورةِ الإيقاع.. كنتُ أشغّلها مساءً، حين كانت الحياة سهلة كضحكة في شارعِنا، قبل أن يصير الحب تهمة، والاشتياق خيانة، والبكاء جريمة يُعاقب عليها الوجدان.
لم يكن ينقصني الحبر يا هذا.. بل كنتُ أفتقد قلباً لا يغرق في الدمع حين يقرأ، أفتقد قلباً لا ينكسر كزجاج عتيق، حين تمرُّ عليه جملة تشبهني.
فيا من كنتَ حكايةً لا تُروى إلا وهماً، وصورةً ضبابيّةً في مرآةِ عمرٍ يتكسّر على مهل.. يا من كتبتُ له خمسين رسالة في ليلة واحدة، ثم مزّقتها كما يُمزق العشاق كفنَ عاطفة وُئدت قبل أن تُولد.
كلّ كلمة لم أُرسلها، كانت رصيفاً انتظرتك عليه.. ولم تأت.. كانت باباً موارباً في قلبي، خشيتُ أن أفتحه فينسكب منه الوجع كله، كما يفيض النهر إذا ناداه المطر من جهة لا تُرى.
ألم تقرأني ذات مساء في سطر بلا توقيع؟ ألم تلمحني في أغنية خافتة تسلّلت من نافذةِ مقهى، أو في عيني امرأة نظرتَ إليها أكثر مما ينبغي ثم أشحتَ عنها، كما يُشيح الراحل عن مدينته كي لا يسقطَ باكياً على عتبتها؟
كلّ الرسائلِ التي لم أُرسلها صارت قناديلَ معلّقة في سقف الذاكرة، تضيء حين يطفو طيفك على سطحِ الليل، أو حين يناديني اسمك في المنام من حيث لا أدري.
كنتُ أراك قادماً من جهة الأفق بعينين تحملان ندم العالم، وماضٍ يتكئ على عكّازِ النداء
فأخاف أن أفتح لك بابي.. لأني أعرف أنّ كلّ من فتحت له قلبي تركه مشرّعاً على التيه..
مفتوحاً للغبار والنسيان.
أيّها الغائب حدّ الحضور، والمقيم في أوردتي كالحُمّى، أردتُ أن أقول لك أشياء لم تُقَل
ولا تُقال.. لكنني آثرتُ أن أظل الرسالة التي لم تصل، والغيم الذي لم يُمطر، والقصيدة التي خافت على نفسها من قارئها، فاختبأت في قلب الشاعر، وظلت هناك.. تنزفُ مجازاً لا يشفى.
ولا تُقال.. لكنني آثرتُ أن أظل الرسالة التي لم تصل، والغيم الذي لم يُمطر، والقصيدة التي خافت على نفسها من قارئها، فاختبأت في قلب الشاعر، وظلت هناك.. تنزفُ مجازاً لا يشفى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.