عبدالرزاق بشير الهويدي: صور لا تنسى خالدة في القلب والذاكرة - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الثلاثاء، 8 أبريل 2025

عبدالرزاق بشير الهويدي: صور لا تنسى خالدة في القلب والذاكرة



عبدالرزاق بشير الهويدي *

ثمة صورة تلاحقني أينما ذهبت.. تلازمني كظلي، تأبى أن تغادر ذاكرتي.. أفتح هاتفي أتأملها طويلاً، وفي ملامحها أجد معاني يعجز قلمي عن وصفها، ويضيق بها صدري كلما حاولت أن أترجمها إلى كلمات.. صور لا تفارقنا أبداً، لا تموت ولا تخفت ولا تتلاشى مع مرور الوقت.. صور تختبئ في زوايا القلب، وتجلس في عمق الذاكرة كأنه كتب عليها الخلود، وحين نظن أننا نسيناها تأتي فجأة كصفعة من الحنين.. كوجع مباغت.. كدمعة في عين طفل لم يدرك بعد لماذا عليه أن يرحل.

زيد وردة لم تكبر

زيد ذلك الصغير الذي لم يتجاوز السادسة كان يشبه الورد وكان فيصل شقيقه الأكبر بسنتين يشبه الظل الذي يحمي الورد من الذبول.. كانا كروح واحدة في جسدين، يتكئ زيد على كتف فيصل، وينظر فيصل في عيني زيد، فيقرأ فيها ما يعجز الجميع عن فهمه.. كان زيد يحمل في عينيه حكاية مدينة، وفي صوته صمت يشبه الحزن الذي لم يعرف كيف يشرح نفسه.. كل يوم كنا نفقد وجهاً، كل ساعة كان يودعنا جار أو قريب.. الخوف كان يزحف مثل الظلال في آخر النهار، والمدينة التي عشقناها صارت تئن تحت وقع الموت والدمار.

نظرات لا تحتاج إلى كلام.. مليئة بالحزن

زيد لم يكن يسأل لكنه كان ينظر طويلاً.. وكان فيصل ينظر حيث ينظر زيد.. كأن بينهما اتفاقاً صامتاً لا يحتاج إلى كلمات.. ينظران إلى الوجوه وهي ترحل إلى الأمهات، وهنّ يخبئن الدموع في الحقائب التي تتكدس عند الأبواب، وكأنهما يعرفان أن لحظة وداعهما مقبلة.. لم يعد في المدينة متنفس ولا أمان.. البيوت صارت قبوراً، والمدارس خلت من ضحكات الأطفال، والمراجيح تساقطت من حدائقها.. كأن الحياة قررت أن ترحل هي الأخرى.

القرار المؤلم الهروب من الموت

اجتمعنا.. قررنا.. أخذنا قراراً مؤلماً: الصغار يجب أن ينجوا، يجب أن يرحلوا قبل أن يسبقهم الموت إلى أبوابنا.. بحثنا عن طريق للهروب، عن مهرّب يحملنا إلى الضفة الأخرى من الحياة.. وجدنا واحداً رأينا فيه أملاً مكسواً بالخطر لكنه كان خيارنا الوحيد.

لحظة الوداع.. دموع زيد

وفي مساء ثقيل لا يشبه المساءات التي عرفناها، استعد زيد للمغادرة، وكان فيصل إلى جواره، يمسك يده الصغيرة التي طالما خبأها في كفه.. اقترب زيد مني، لم يتكلم، لم يعترض.. فقط ارتمى بين ذراعيّ لف ذراعيه حولي، وبكى.. كان زيد هو من حضنني وأسند رأسه على صدري، كأنما يريد أن يختبئ من العالم بأسره في ذلك العناق.. كانت دموعه ليست كدموع الأطفال، كانت حارقة كدموع من يسلب روحه.. كانت أشبه برسالة عاجزة: لماذا ترحلون بي؟ لماذا أنا؟ لماذا أرحل وأنت تبقى؟ لماذا يأخذونني من شجرتي من ترابي من حضني الأول؟ لماذا هذا الوطن لا يتسع لنا جميعاً؟

لحظات انتظار بين الرجاء والخوف

في تلك اللحظة التي احتضنني فيها زيد، لم يكن مجرد عناق.. كان وداعاً طويلاً، كان قبلة أخيرة على جبينه الطاهر.. كانت لحظة تقاوم الزمن، وتدفعه للابتعاد، كأننا ننقض على تلك اللحظة بشدة كي نعلقها في الذاكرة، كي لا تفلت منا، كما يهرب الرمل من بين الأصابع.. عانقته بقوة على الرغم من ضعفي، كنت أحاول أن أخفي كل شيء.. تلك الدموع التي كانت تملأ عينيّ، وتكاد تخرج ذلك الضعف الذي كان يلتف حول قلبي كحلقة من حديد.. حاولت أن أكون قوياً، أن أظهر أمامه كما لو أنني القادر على حمايته من كل شيء.. من الموت، من الوداع، من أي شيء.. ولكنني في أعماقي كنت أعلم أن هذا الوداع سيظل جزءاً من حياتي، جزءاً من فقدان ليس مجرد شخص، بل جزء من روحي..
ولكن لم يكن الخوف هو الذي يتسلل إلى نفسي فقط، بل كان الأمل أيضاً موجوداً.. كان هناك في أعماقي شعور بأن ما من شيء مستحيل.. كان كل لحظة تمضي كأنها حلم مرير يعيد نفسه.. لا أستطيع تحديد متى سينتهي، ولا ماذا سيحدث بعد ذلك.. كان هناك شعور غامض بأن الوقت قد حان للرحيل، وأن ما ينتظرنا قد يكون أخف وطأة من هذا الظلام.

المفاجأة القاسية فشل المحاولة الأولى

غادر زيد وفيصل وتركوني معلقاً بين الرجاء والخوف.. أمضيت الليل كله أنتظر خبراً، أنتظر شمساً تحمل لي الاطمئنان، وحين بزغ الصباح كان الخبر أقسى من الليل؛ زيد وفيصل لم يصلا.. عادا مقيدين في عربة يجرها جرار زراعي.. وزيد ومن معه فيها.. صورة أقسم بالله لازالت عالقة بذاكرتي، أقسى من صورة الوداع لأني أعرف وأعي مصير من يُمسَك ويُقتاد.. اقتيدا مع من كان معهما إلى السجن.. وكنت أنا في الخارج أحمل صورة زيد ودمعته وصمته، وصورة فيصل وعينيه المتماسكتين كقلب أب صغير، ولا شيء غير الانتظار.

المحاولة الثانية الخطر يقترب

مرت ساعات لم أعش مثلها من قبل، ثم جاءت المحاولة الثانية من طريق آخر أشد خطراً، من مسار يكاد الموت يتربص بهما عند كل خطوة فيه.. انفجر لغم وسقط المهرب ضحية.. لكن زيد وفيصل نجيا، وفي مساء آخر كانت البشرى: وصلا إلى برّ الأمان، وارتفعت أصواتهما من خلف الهاتف: نحن بخير.
فيصل وزيد.. ابنا الكاتب عبدالرزاق بشير الهويدي

صورتان تسكنان قلبي

لكنني أنا لم أعد بخير منذ وداع زيد.. كلما فتحت هاتفي وقعت عيناي على صورته وهو يعانقني قبل الرحيل، وبجانبه فيصل واقف كظل خائف، لا يريد أن يُظهر ضعفه فأشعر أن قلبي يتمزق.. أن روحي تتبعثر.. أنني فشلت في أن أحميه من الوداع.. زيد يا وردة هاجرت قبل موعد تفتحها: أقسم أنني لم أنسك لحظة، وأنت أيضا يا فيصل.. يا من كنت تحاول أن تكون الجبل الذي يحمي أخاه.. دمعتكما لا تزالان تحترقان في داخلي، وصورتكما لا تزالان تحرسان قلبي.. بقينا أنا والبقية كحراس صامتين لبيوت أنهكها الحنين، نقف على الأبواب، نحدق في الفراغ، ننتظر ولا ندري ما الذي ننتظره؛ موتاً يأتي على مهل أم لحظة يعود فيها من هاجر، أم أننا سنلحق بهم ذات يوم، ونترك مدينتنا تئن وتقتل وحيدة، كما تقتل الذكريات حين لا تجد من يحتضنها.

حين تعود الأرواح إلى جذورها

مرت سنين ولا زالت تلك اللحظة حية في قلبي، كأنها لم تغب يوماً.. عاد زيد إلى مدينته، إلى جذوره، إلى حيث تتوق روحه وتشتهي، وكأن الأرض نادته فعاد إليها مطمئناً ساكناً، ولازالت تلك الذكرى عالقة في ذاكرتي تنبض بكل ما فيها من وجع واشتياق.

ملاحظة: 
هي ومضة من الواقع، ولكنها ترتدي عباءة الخيال. والصور أرادها مراسل صحيفة عالمية "التايمز" لينشرها لكنني رفضت.
من سلسلة (الرقة: ذاكرة الرماد والدم) يتبع ....


* كاتب سوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.