سرمد الناصر *
هي ومضة شعرية تنضح بعطر الأرض، وتتنفس من خفقة الروح، وتصوغ الحنين بصوت الفرات.
هناك توازن بين الإيقاع الحر والوقفات الموسيقية التي تخدم المعنى وتمنحه عمقاً وجدانياً.
القصيدة موزونة على نمط التفعيلة الحرة، وتتحرك غالباً في فضاء بحر الكامل (مُتَفاعلن متَفاعلن متَفاعلن) أحياناً، أو تتقاطع مع المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعولن)، ولكن دون التزام حرفي، بل بروح موسيقية حرة تتبع المعنى والعاطفة.
ولو عدنا إلى رائد الشعر الحر بدر شاكر السيّاب، لوجدنا بناء القصيدة من حيث الإيقاع الحُر المشحون بالألم الهادئ وأسلوب البناء المتدرج بالموسيقى، ثم القفز إلى صورة قوية ("أضحى جُلَّ ناري")، يماثل بناء السيّاب لقصائده الحرة.
تعمد الشاعر التكرار حتى يعطي لنفسه دوراً عاطفياً مهماً، وليثبت أنه جزء من النص خصوصاً عبارة: "أنا من هناك".. التي حملت وطأة الحنين، وأعادت القارئ كل مرة إلى الجذر، إلى الأصل، وهذا يشبه جزئية محمود درويش في التكرار والهوية "أنا من هناك..."
هذه العبارة المفتاحية تحمل صدى جملة درويش الشهيرة: "أنا من هناك.. ولي ذكريات...".. من قصيدته الشهيرة "جدارية".
كما أن استحضار التاريخ والأنبياء والملوك والحضارات في القصيدة يشبه ما فعله درويش في أعمال مثل أثر الفراشة ولماذا تركت الحصان وحيداً؟
أولاً: الناحية الجمالية:
1. الموسيقى الداخلية والخارجية:هناك توازن بين الإيقاع الحر والوقفات الموسيقية التي تخدم المعنى وتمنحه عمقاً وجدانياً.
القصيدة موزونة على نمط التفعيلة الحرة، وتتحرك غالباً في فضاء بحر الكامل (مُتَفاعلن متَفاعلن متَفاعلن) أحياناً، أو تتقاطع مع المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعولن)، ولكن دون التزام حرفي، بل بروح موسيقية حرة تتبع المعنى والعاطفة.
ولو عدنا إلى رائد الشعر الحر بدر شاكر السيّاب، لوجدنا بناء القصيدة من حيث الإيقاع الحُر المشحون بالألم الهادئ وأسلوب البناء المتدرج بالموسيقى، ثم القفز إلى صورة قوية ("أضحى جُلَّ ناري")، يماثل بناء السيّاب لقصائده الحرة.
تعمد الشاعر التكرار حتى يعطي لنفسه دوراً عاطفياً مهماً، وليثبت أنه جزء من النص خصوصاً عبارة: "أنا من هناك".. التي حملت وطأة الحنين، وأعادت القارئ كل مرة إلى الجذر، إلى الأصل، وهذا يشبه جزئية محمود درويش في التكرار والهوية "أنا من هناك..."
هذه العبارة المفتاحية تحمل صدى جملة درويش الشهيرة: "أنا من هناك.. ولي ذكريات...".. من قصيدته الشهيرة "جدارية".
كما أن استحضار التاريخ والأنبياء والملوك والحضارات في القصيدة يشبه ما فعله درويش في أعمال مثل أثر الفراشة ولماذا تركت الحصان وحيداً؟
2. اللغة:
الشاعر يستخدم لغة شفافة، مشحونة بالصور الوجدانية والرموز الحضارية، تتدفق بسلاسة من القلب إلى القارئ.
مزج بين البساطة والعمق، فاللغة سهلة، لكنها غنية بالتضمينات الدلالية.
"من بلاد الزيزفون / من بلاد الأقحوان / المرتمي ولهاً / على خد الندى".. هنا تتجلى صورة الأرض كأنثى معشوقة، حبيبة تُروى بندى الحنين، وهذا من أقوى ما في النص.
"المرتمي ولهاً على خد الندى"، تصوير مدهش، يجعل الأرض ككائن ينبض، تُرْتَمى عليه العاطفة.
2. تناص تاريخي/ أسطوري:
"من نهار عاش جلجامش / وماري / عاش ترحال الرشيدِ مع الجواري".. استحضار "جلجامش" و"ماري" و"هارون الرشيد" ليس مجرد زخرفة ثقافية، بل تأكيد على عمق الانتماء التاريخي والوجودي للمكان.
عبد الوهاب البياتي في استحضار الأسطورة، "عاش جلجامش... وماري...".. يشبه توظيف الشاعر للرموز الحضارية القديمة أسلوب البياتي في استدعاء الحضارات (سومر، بابل، أور)، لإثبات أن الإنسان ابن هذا المدى الواسع.
الربط بين الماضي الأسطوري والحاضر الحارق، يُظهر أن هوية الشاعر ليست آنية، بل ضاربة في جذور الوجود.
3. الماء والنار:
"ذلك النهر البديع / كان يوماً جلناري / ثم أضحى جُلَّ ناري"..
السيّاب في تحول النهر من الحياة إلى الموت..
"ذلك النهر البديع / كان يوماً جلناري / ثم أضحى جُلَّ ناري..."..
هذه التحوّلات التي يُستعار فيها النهر ليكون رمزًا للتغير السياسي والاجتماعي والعاطفي، تُشبه فعل السيّاب في أنشودة المطر:
"كأن صيحات الطفولة، تختنقْ".. النهر عند السيّاب هو الحياة والموت، كذلك هو عند جرير المبروك هنا.
استخدام النهر كرمز للحياة، ثم تحوّله إلى رمز للخراب، يعكس بذكاء تحول الأحوال وتبدّل الزمن.
الصورة هنا بصرية - عاطفية: النهر يتحول من وردة (جلنار) إلى لهب (النار).
استخدام الكلمات مثل: "الحب المعتق"، "خد الندى"، "الفرات" يشي بعاطفة عالية الرهافة، تحمل توقاً عميقاً وانكساراً نبيلاً.
النفس الشاعرية هنا حالمة، لكنها تنزف بهدوء، تحنّ إلى ماضٍ نقيّ في حضرة حاضر متألم.
---
في الختام:
"جرير المبروك" هنا شاعر لا يكتب فقط، بل يبكي الأرض بالشعر. هو ليس غريباً عن اللغة، بل ابنها البكر.. يحمل في قلبه الفرات، وفي حنجرته ماري، وفي ذاكرته جلجامش... هو من هناك فعلاً، من هناك حيث تولد الحكايات وتموت الأغاني لتُبعث من جديد.
الخلاصة:
قصيدة جرير المبروك تنتمي فنياً إلى سلالة قصائد الشعراء الذين كتبوا الذات من خلال المكان والتاريخ والحب، وتُشبه من حيث الروح والأسلوب أعمال درويش وقباني والسيّاب، لكنها تظلّ بصوتها الخاص، ولهجتها الفراتية الندية، وبصمتها العاطفية الفريدة.
* كاتب وشاعر سوري
الشاعر يستخدم لغة شفافة، مشحونة بالصور الوجدانية والرموز الحضارية، تتدفق بسلاسة من القلب إلى القارئ.
مزج بين البساطة والعمق، فاللغة سهلة، لكنها غنية بالتضمينات الدلالية.
ثانياً: الصور الإبداعية والتناصات الحضارية:
1. الطبيعة والأنثى:"من بلاد الزيزفون / من بلاد الأقحوان / المرتمي ولهاً / على خد الندى".. هنا تتجلى صورة الأرض كأنثى معشوقة، حبيبة تُروى بندى الحنين، وهذا من أقوى ما في النص.
"المرتمي ولهاً على خد الندى"، تصوير مدهش، يجعل الأرض ككائن ينبض، تُرْتَمى عليه العاطفة.
2. تناص تاريخي/ أسطوري:
"من نهار عاش جلجامش / وماري / عاش ترحال الرشيدِ مع الجواري".. استحضار "جلجامش" و"ماري" و"هارون الرشيد" ليس مجرد زخرفة ثقافية، بل تأكيد على عمق الانتماء التاريخي والوجودي للمكان.
عبد الوهاب البياتي في استحضار الأسطورة، "عاش جلجامش... وماري...".. يشبه توظيف الشاعر للرموز الحضارية القديمة أسلوب البياتي في استدعاء الحضارات (سومر، بابل، أور)، لإثبات أن الإنسان ابن هذا المدى الواسع.
الربط بين الماضي الأسطوري والحاضر الحارق، يُظهر أن هوية الشاعر ليست آنية، بل ضاربة في جذور الوجود.
3. الماء والنار:
"ذلك النهر البديع / كان يوماً جلناري / ثم أضحى جُلَّ ناري"..
السيّاب في تحول النهر من الحياة إلى الموت..
"ذلك النهر البديع / كان يوماً جلناري / ثم أضحى جُلَّ ناري..."..
هذه التحوّلات التي يُستعار فيها النهر ليكون رمزًا للتغير السياسي والاجتماعي والعاطفي، تُشبه فعل السيّاب في أنشودة المطر:
"كأن صيحات الطفولة، تختنقْ".. النهر عند السيّاب هو الحياة والموت، كذلك هو عند جرير المبروك هنا.
استخدام النهر كرمز للحياة، ثم تحوّله إلى رمز للخراب، يعكس بذكاء تحول الأحوال وتبدّل الزمن.
الصورة هنا بصرية - عاطفية: النهر يتحول من وردة (جلنار) إلى لهب (النار).
ثالثاً: الانعكاس النفسي والرقة
القصيدة كلها تُقرأ كصرخة رقيقة، ووجع مطرز بأكمام الجمال.. الشاعر لا يصيح، بل يهمس... ولكنه يهمس من عمق جرح.استخدام الكلمات مثل: "الحب المعتق"، "خد الندى"، "الفرات" يشي بعاطفة عالية الرهافة، تحمل توقاً عميقاً وانكساراً نبيلاً.
النفس الشاعرية هنا حالمة، لكنها تنزف بهدوء، تحنّ إلى ماضٍ نقيّ في حضرة حاضر متألم.
---
في الختام:
"جرير المبروك" هنا شاعر لا يكتب فقط، بل يبكي الأرض بالشعر. هو ليس غريباً عن اللغة، بل ابنها البكر.. يحمل في قلبه الفرات، وفي حنجرته ماري، وفي ذاكرته جلجامش... هو من هناك فعلاً، من هناك حيث تولد الحكايات وتموت الأغاني لتُبعث من جديد.
الخلاصة:
قصيدة جرير المبروك تنتمي فنياً إلى سلالة قصائد الشعراء الذين كتبوا الذات من خلال المكان والتاريخ والحب، وتُشبه من حيث الروح والأسلوب أعمال درويش وقباني والسيّاب، لكنها تظلّ بصوتها الخاص، ولهجتها الفراتية الندية، وبصمتها العاطفية الفريدة.
* كاتب وشاعر سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.