أحمد عواد إبراهيم: مراثي الغمر المنسية.. الوشم - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الأحد، 6 أبريل 2025

أحمد عواد إبراهيم: مراثي الغمر المنسية.. الوشم



أحمد عواد إبراهيم *

شمس الدين.. قرية أمعنت في المشي فوق الدروب التي أكلت قدميها.. كان قدرها أن تضرب بعيداً في تيه العالم.. وبرغبة حارقة تحاول أن تحصي هزائمها أمام الموت والزمن، وتثبت علاقتها بحياة قديمة، مثل امرأة ممتلئة بالأحزان الضائعة.. تهرب من رائحة حامضية لرجل رصاصي اللون، ينبت في مروج الروح.. وسطوة ماء يختلج بين كفي أيام موحشة مشبعة بالمجهول.. 

هكذا حدث نفسه عبود الشواخ، وهو يجلس عصراً في (فيانة) الدار.. يحاول لملمة ما تبقى من شمس الدين.. ليكن مدفنك القلب، وهناك تألقي كعشق عتيق.. كمطر حار يغسل أعشاب القلب.. يحدق في أقصى الشرق.. طائر وحيد يرسم خطوطاً لا مرئية.. تتبدى أحياناً لعيني عبود كتخوم تفصل الماء عن الصحراء، والليل عن النهار.. 

يحلق الطائر حتى يبدو كنقطة مرتجفة على كف زرقة بدت خجولة في حضرة نهار يتلاشى بلا هيبة.. تمر خيالات لفرسان يلوحون بصمت.. تتحرك الأحصنة كدفقات من السراب الذي يتكاثف، ثم ينقشع عن مخفر مخلع الأبواب والشبابيك.. يسكنه صمت مهزوم قبالة صدى لبواريد حفرت على حيطانه هوسات من عبروا تضاريس الزمن القاسي.. وجه جرمانيوس الشاحب يحدق ببله.. بينما الطائر يذوب في الأزرق كجرح دفين لا ينام.. يبتسم عبود ويغمض عينيه.. الآن ارتاح طائر القزق، وفاض الماء.. انزلقت الشمس في حضن القسم الآخر من العالم.. ينعطف بيكاب عبدالله البرسان إلى اليمن عن الطريق الواصل بين عامودا والدرباسية.. البهيرة كقطعة منسية منذ عصور تبحث عن بدايتها.. تتهيأ لأول صرخة مشلوعة من خاصرة ديريك الغمر.. 

كانت صرخة إحدى شقيقات الراحل  اووف يخيي أوف يخيي) بعد أن وقف شقيق الشيخ على باب (الأوضة) وبدون أن يلقي السلام.. قال بصوت معجون بحشرجة مبللة بدموع الرجال (البقا براسك بعبود يشواخ)..
- عبود مات؟ شلون يموت عبود؟ 
اليوم انكسرت باكورتي ياعبدالله.. كلمات تفر من فم الشيخ كأنها أسراب تغادر قيعان روح عميقة موشومة بالبخور والنار.. تعالت أصوات النساء التي قطعت الجدائل ومزقت الأثواب.. (ما جم البعاد دزولهم مكتوب) كأخمص يبعج الليلك بلطم يحثو التراب بوجه قمر ذاهل.. 


خرج الشيخ من المضافة.. يتساند على تاريخ ركع ضارعاً بين يديه في يوم ما.. صرخ بالنساء (روحن اجذبن هناك روحن اجذبن هناك).. تفازع الرجال لتجهيز بيوت الشعر.. بينما البهيرة تتحول إلى محشر كبير.. محج لدموع آلاف البشر.. وديريك تعطي صدرها العاري لكل هذا الحزن الفسيح.. وصلت برقيات تعزية من القصر الجمهوري.. ومن وزير الدفاع.. نقلها محافظ الحسكة للشيخ.. يتهامس الناس عن عدد الذبائح اليومي.. تلال الرز تبدو واضحة لسكان الجابرية.. استمر العزاء لأيام كثيرة.. وفي كل يوم تتسع خارطة الوشم في الروح.. 

الشيخ شواخ البورسان موجوع بذاكرة مرسوم عليها وجه عريس نام وسينام طويلاً.. وعندما يتداعى الكل من الإرهاق والتعب ويخيم الصمت.. تظل عيون الشيخ معلقة بفضاء الله.. بانتظار أصوات لم تفارق سمعه منذ أول ليلة لرحيل عبود ( شواخ محاربلو دولة..) مخفر عريمه.. سارية وعلم الوطن يرفرف على وقع اندحار الحامية.. (حرشا وعطشانه تدور الشر.. ما تهاب طوابك يالعسكر..).. 

يا لهذا الحزن كيف يحاول هزيمة رجل لم تهزمه فرنسا.. ولا خلخلت عزيمته طائرات جرمانيوس.. ولليوم لازالت أصوات المدافع تسمع عند تلة عرودة.. آه يا شمس الدين.. أيتها الماشية على صراط الحزن المقيم.. والموشحة بالعز والأحلام الآفلة.. والتاركة على القلب وشمك الأبدي.

* كاتب وفنان تشكيلي سوري، يرجى الضغط هنا لزيارة صفحته على فيس بوك


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.