غازي عبدالرحمن الحجَّو *
الشعر العمودي هو الشكل الأول من أشكال الشعر في اللغة العربية ويتميز بترابط القصيدة المكتوبة من ناحية الأفكار والغرض والشعور وصحة المعاني واستقامة الألفاظ، والوصف والتقارب في أسلوب التشبيه والبداهة واستخدام الأمثال، وهو أصل الشعر.
اهتم به العرب منذ بداية نظمه وتداولوه فيما بينهم حتى أصبح تقليداً عندهم، فظلت القصيدة بشكلها العمودي عبر العصور موطناً يتفاخر به العربي، فهي محتوى بطولاته وانتصاراته وشجاعته وكرمه وأخباره في حلّه وترحاله، وهذا ما يثبت مقولة: (الشعر ديوان العرب)، فكانت القصيدة الواحدة قد ترفع شأن قبيلةٍ وقد تخفضه، فمنذ العصر الجاهلي وما تلاه من حِقب كانت القصيدة العربية في كل عصر تأخذ مضموناً يختلف عنه في العصر الآخر، من حيث الغرض والمبتغى والمفردات.. لكنها ظلت محافظة على شكلها العمودي من حيث المبنى في القافية والوزن، وفي الوقت ذاته متكيفة مع المستجدات من حالات وصور ومفردات ودلالات الرمزية والانزياح وغيرها..
فالانزياح خروجٌ عن المألوف وتجاوزٌ للسائد، وفي الوقت ذاته إضافة جمالية يمارسها المبدع لنَقْلِ حالته الشعورية، وقد استطاعت القصيدة العمودية التمنتج معه واستيعابه بزينتها وديكوراتها الفخمة من بيان وبديع وجناس وطباق ومجاز واستعارة وغيرها، وظلت قوافيها مضبوطة الحركات وموسيقاها أليفة الأذن منذ عشرات القرون، وظلت هي الوحيدة في الساحة بلا منازع إلى نهاية الحرب العالمية الثانية في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، حيث واجهت البشرية معالم جديدة وثورة في العلوم، غيَّرت الكثير من الأنماط والسلوكيات والعادات والمفاهيم والقيم في الحياة، فلم يكن المنافس الجديد (الشعر الحر) يمتلك الجرأة والقوة لطمس معالم القصيدة العمودية، وحسر انتشارها وشعبيتها وتفوقها، بل على العكس ازدادت آراء الأدباء والنقاد بل وعامة الناس بها تمسكاً وتذوقاً واستمتاعاً..
وكيف لا؟.. والقصيدة العمودية هي التي استطاعت أن تقنع العربي بخلود الشعر وبقائه حيّاً متداولاً عبر العصور والأزمان، تتناقله المجالس والألسن في شتى الأصقاع، وما خلود ذكر امرئ القيس وشهرته، وبطولات عنترة، وصِيت سيف الدولة الحمداني، وتاريخ كافور الإخشيدي، وما سطَّره البحتري عن بعض المعارك، وما رواه ابن الرومي عما حصل في بغداد من ثورات وفتن، بل حتى بعض أخبار صدر الإسلام.. ما هي إلا من مراجعات سجلات الشعر العمودي ودواوينه حتى يومنا هذا..
وكيف لا؟.. والقصيدة العمودية لم يتخلَّ عنها بعض رواد وقادة الشعر الحر، فما أكثر القصائد العمودية لنزار والبياتي والسياب وغيرهم ممن حمل لواء التمرد على القصيدة العمودية، فقد ظلت عموداً أساساً في مكنونات بَوحِهم وإبداعاتهم، ومن ذلك ديوان (عشاق الليل) الذي نُشر في بغداد عام 1947 لنازك الملائكة والأمثلة كثيرة.. ولا مجال لذكرها..
وكيف لا؟.. والقصيدة العمودية هي الأيسر حفظاً والأسرع انتشاراً وشيوعاً والأسهل لحناً وغناءً، فهي كانت ومازالت الوسيلة المثلى للطرب والفرح، وكذلك للحزن والشجن والرثاء والتعازي..
وكيف لا؟.. والقصيدة العمودية هي محور دندنة الشخص مع ذاته في حالات حزنه وفرحه.
وكيف لا؟.. والقصيدة العمودية هي العابرة لحدود القطرية بين كافة شرائح المجتمع العربي، فإذا صدح الجواهري في بغداد سرعان ما يصل الصدى إلى بلاد الشام والنيل وموريتانيا والخليج.. وما ذلك إلا سر قوة القصيدة العمودية التي تزلزل الأسماع وتصيخ الأذان..
وكيف لا؟.. والقصيدة العمودية تتجاوز حدود الذات لتعبر عن الحالة الجمعية للمجتمع وللأمة من دون أن تبقى في مفاهيمها وموسيقاها حبيسة ذات الكاتب ورهينة دواخل هاجسه..
وأخيراً كيف لا؟ والقصيدة العمودية ظلت هي الجدار العالي والحصن المنيع الذي لم يتجرأ صغار الأقلام وممتهنو صنعة الكلام على النَّيل من عظمتها والتجلبب بها للظهور على الملأ بصفة شاعرٍ لملمَ بعض المفردات في جيب من جيوب قنوات التواصل الاجتماعي ليقول صرت شاعراً فالقصيدة العمودية هي مطيَّة الفارس الحاذق الذي يمتلك ناصية اللغة ومفاتيح الوزن ويجيد فنون التحليق في آفاق الوجدان والخيال فهي لن تثبت جذراً في الأرض وغماماً في عنان السماء إلا لأن فرسانها ليسوا ممن هبَّ ودبَّ من المتشيعرين.
* شاعر وكاتب سوري، الرقة، الجرنية، قرية حلاوة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.