عبدالرزاق بشير الهويدي: محمود الذخيرة.. طير الفرات الذي فقد جناحيه - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

السبت، 19 أبريل 2025

عبدالرزاق بشير الهويدي: محمود الذخيرة.. طير الفرات الذي فقد جناحيه

 



عبدالرزاق بشير الهويدي *

رحمه الله وغفر له، الشاعر محمود الذخيرة، لم يكن مجرد شاعر يكتب أبياتاً ويمضي، بل كان من أعلام الفرات الذين تركوا أثراً لا يمحى، وكان صوته يتدفق كالنهر، يغذي الضفتين ويمنح الحياة لما حوله.

طالما تحدّثت عنه المجالس في لياليها الدافئة، يوم كان السراج يضيء الزوايا، وكانت كلماته تتداول بحنين واعتزاز، حين كانت للكلمة هيبة، وللشعر نفس يشبه هدير الفرات ساعة الفيضان.

في تلك الأيام، لم تكن الكلمات تعبيراً عن مشاعر عابرة، بل كانت جزءاً من الأرض، من وجدانها المتجذر في الطمي، الممتد في عمق الزمن.

كان محمود الذخيرة باحثاً في تراث الفرات، شاعر غزل، لكنه لم يكتب للمجد أو المديح. كتب من الأعماق، من جراح الأرض، من نزيف الذاكرة. حمل الفرات في قلبه كما يحمل الوطن، لم يفرط في حبه برغم ضيق المسالك.

نحت حروفه على وجدان الناس، وكتب لا ليقال عنه شاعر، بل لأنه شعر أن كل بيت هو حطب لحريق لا ينطفئ إلا بالكلمة.. لم تكن قصائده مجرد زينة لغوية، بل كانت حكايات عشق ووفاء، كتب للمرأة الفراتية كما لم يكتب أحد. لم ير فيها مجرد رمز للجمال، بل كانت عنده تجسيدا لجراح الأرض، وأحلام العشاق، وأنين الانتظار.

قصائده كانت كالأنهار التي لا تجف، تغسل الروح من تعب الزمن وتعيد إليها شجاعتها.
وعندما كان يكتب، كان التاريخ يتوقف ليستمع. كلماته خاضت معركة مع الزمن وانتزعت منه الخلود بصدقها.

وآخر ما كتب، كان الأصدق:
بتالي زماني صرت طير بليا جناح
يا حيف عدى العمر سلم عليا وراح

هل سمعتم وجعا أبلغ من هذا؟

كأن العمر مر عليه كالسحاب، لم يترك له سوى ظله. وكأن الأمل كان جناحاً سقط من دون إنذار، فلم تعد للروح قدرة على التحليق، لا في الحلم ولا في الذكرى.

كان يدرك أن الكلمة الأخيرة تشبه النفس الأخير، فكتبها كما لو أنها وصية محفورة في قلب التاريخ.
صرت طير بليا جناح.. أي حال هذه؟ لم يقل صرت شيخاً أو وحيداً أو منهكاً، بل عبر عن كل ذلك بصورة واحدة.. طير بلا جناح.
كائن خلق للطيران، وفقد ما يبقيه حياً.. فقد نبضه الحقيقي..
يا حيف عدى العمر.. كأن العمر لص شريف، صافحنا ومضى، أخذ معه ما نحب من دون أن يسرق خلسة، بل مر أمام أعيننا، ولم يتوقف لحظة ليقول وداعاً.
نعم، هذا البيت لا يقرأ.. بل يبكى عليه. لا يفهم فقط، بل يحس، ويتأمل، ويستدعى فيه صوت الرجل الذي صمتت أجنحته، لكن كلماته مازالت تحلق في فضاء الذاكرة.

محمود الذخيرة لم يرحل، فالكبار لا يرحلون.. هو الآن يسكن قلب كل فراتي شرب من ماء النهر وسمع بيتاً من قصائده. هو جزء من تراث هذه الأرض، من تنهيدة حب ما اكتمل، من همسة عاشق، ومن نداء القصيدة التي لم تخذل قلبها يوماً.

وخاتمته لم تكن بيت شعر فقط، بل كانت قصيدة عمر اختزلت المسير:
بتالي زماني صرت طير بليا جناح
يا حيف عدى العمر سلم عليا وراح

رحمك الله يا محمود، كنت جناح القصيدة، وصوت الفرات الذي عاش فيك كما عشت فيه، وظلاً نقياً في عالمٍ لم يخلق للجمال إلا ليحرسه الشعراء.

ستظل كلماتك أبدية، وسنظل نردد اسمك كلما نادى نهرنا أبناءه، وسنعلق بيتك الأخير على جدار الذاكرة، لا لنرثيك فقط، بل لنبقيك حياً فينا.
سلام على روحك التي لم ترحل، وسلام على قامتك التي بقيت بيننا كلمة ونهراً، وشهادة عشق لا يملؤها غياب.

* كاتب سوري


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.