أحمد عواد إبراهيم: إبراهيم تايسون وحمود علي كلاي - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الأربعاء، 9 أبريل 2025

أحمد عواد إبراهيم: إبراهيم تايسون وحمود علي كلاي

 


أحمد عواد إبراهيم *

كنا أربعة فتيان.. نبحث عن لحظة مجنونة حقيقية في مدينة تزدري مجانينها، لنهرب من العقل الذي يثقل كاهل الجميع، ويكبل أحلامهم، ويربطها على أعمدة الواقع اليابس الجاف.. 

نعم كان لدينا أحاسيس مستحاثات بشرية لازال المعنى يسري في أعصابها.. وهذه أول نافذة على العبقرية والجنون.. وتلك آحاسيس لها تضاريسها، سهوبها ووديانها، كهوفها الغامضة السرية.. والويل كل الويل لأمة مفلسة من المجانين الحقيقيين.. يعني أنها أمة فقيرة بالنخب.

ولما كان إبراهيم سيد المشاريع المجنونة.. فقد ورطنا في الانضمام إلى الاتحاد الرياضي كملاكمين عند المدرب محمود الآغا.. وحفظنا فورا أسماء اللكمات (مستقيمة، أوبر، كروشيه).. وبدأنا نتدرب نحن الأربعة ونخوض مباريات مع الزملاء الملاكمين من نادي الشباب.. قلت: مباريات وهي مفردة رياضية.. لكن ما كنا نخوضه يمكن تسميته وبكل جرأة (مكافشة) لكن بقفازات.. وشخص يسمى "الحكم" لا يطيب له أن يفك بين الضارب والمضروب، حتى يسمع نداء الاستغاثة (يا يمة.. آآآخ..).. وقد تصل الأمور إلى (المراششة بينما اللخلخة عاجدة).. 

لا أدري كيف خطر لإبراهيم أن ننشق عن الاتحاد الرياضي، ونؤسس نادي ملاكمة خاص باتحاد العمال.. فبعد زيارة لرئيس الاتحاد منحونا صالة ومبلغاً من المال لشراء وتجهيز ما يلزم للتدريب.. لكن المشكلة الكبيرة التي واجهتنا هي تأمين المدرب.. وهنا تفتقت عبقرية إبراهيم واقترح أن يكون خالي بدر هو المدرب.. وخالي هذا لا يعرف من الملاكمة إلا بالقدر الذي تعرفه "حبابتي" عن علم الجينات.. فكان علينا أن ندرب خالي أولاً حتى يقوم بتدريبنا.. وفعلاً دربناه حتى أتقن اللكمات وطريقة الإحماء والأوزان، ولم ننسَ أن ننبهه بأن من مهام المدرب أثناء المباريات أن يلقي بالبشكير داخل الحلبة إذا شعر أن ملاكمه (أكل هوا).. إلا أن الخال لم ينتبه إلى هذا التنبيه المهم جداً.. لا بل لقد نسيه تماماً بينما كان محمود يخوض نزاله مع أحد الزملاء من ناد آخر.. كان محمود يصرخ ما بين البوكس والبوكس (يا ستاز زت البش... لا تكتمل العبارة بسبب بوكس من الخصم.. ثم يكرر المسكين.. يا ستاز زت... بوكس..... ياستاز زت البشكيــ... بوكس.. حتى انتبه الحكم وأنهى اللقاء..). 

أما إبراهيم فقد خاض الجولة الأولى من النزال بجدارة وحرفية.. إلا ان الجولة الثانية انتهت قبل الوقت.. حسب رواية إبراهيم أن الشقيقة العصبية (هاضت) عليه أثناء النزال.. لكن ما شاهدناه يقول إن الشقيقة بريئة تماماً كبراءة الذيب من دم يوسف.. الفائز الوحيد كان من نادينا هو حمود.. فقد فاز بالتزكية لعدم وجود خصم بوزنه.. بينما كاتب هذه الحروف فهو لا يذكر من تلك المنازلة إلا أن الناس تقف بالمقلوب، والدنيا كلها تدور.. وثمة حلقات حلزونية من نور ونار تتطاير وتتطشر ثم تضيع في الفضاء. 


قالوا لي إنني دخلت الحلبة "صاغ سليم ومبتسم".. وخرجت وحالتي تصعب على الكافر.. بعدها أعلنت اعتزالي الملاكمة، لكن الشباب أجلوا الاعتزال حتى ذاقوا ما ذقته.. فحمود لم يسعفه الحظ للفوز بالتزكية للمرة الثانية، فأسعفه أنفه الذي تلقى لكمة جعلته يشخل الدم.. وهو من النوع الذي يغمى عليه عند رؤية الدم، فاعتزل على إثر ضربة قاضية.. وكذلك محمود اعتزل أيضاً بعد أن أنجده خالي بالبشكير بعد أول بوكسين.. أما إبراهيم فقد اعتزل بعد أن حاز على الميدالية البرونزية على مستوى القطر.. ومدربنا السيد "خالي" عاد ميكانيكياً وهو يردد (كار مو كارك يخرب ديارك).

وبذلك نكون قد طوينا صفحة من صفحات الجنون والمغامرة، لننتقل إلى عالم "الطابة" ونؤسس فريقاً خاصاً بمؤسسة الإسكان العسكرية، وتلك حكاية أخرى، لكنها جميلة الملامح ناعمة.

كنا أربعة نحاول أن نملأ الدنيا صخباً.. رحل محمود إلى وجه ربه، ورحلتُ إلى بطن المنفى.. بينما من بقي هناك لازال يبحث بين الركام والحطام عن وجه قضية يستحق أن يموت الناس وتموت المدن لأجلها.. هناك ما بين الركام والحطام تنام أرصفة وزعنا عليها حصصها من الضحك والصخب والجنون.. في ليال لم يكن يخطر ببالها أن تضربها الرياح بكل شراستها وأنينها الموجع.

* كاتب وفنان تشكيلي سوري

* كاتب وفنان تشكيلي سوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.