وطفة الفرات *
حين ولِدتُ، لم تبكِ أمي بل شهقت.. كأنها شهقت عمراً كان نائماً في رحمها واستفاق على هيئة أُنثى.. كأنها شمّت وردة من جنان مؤجلة، فتفتحت في صدرها دون إذن من الزمن.
لم أولد من رحم امرأة فقط، بل من رحم حضارة، من طين الفرات حين يبتهل للمطر، من نَفس جدتي حين توشوش للمسبحة باسم الله، وتنام. من ذاكرة وطن.. من وشم على زند الزمان.. من صلاةٍ كانت في الانتظار منذ أول شهقة خُلقت في الصباح.
ولدتُ.. في غرفة تشبه الرحم، تزين جدرانها السِبح، وتُعَلقُ فوق رأسها آية الكرسي. وفي الزاوية ينام جدي بين حكاية وحكاية ينتظرني.
حين صرختُ صرختي الأولى، لم يقُل أبي: "جاءتنا بنت"، قال: "جاءنا حِصن". ومنذ تلك اللحظة، بدأتُ أُربى لا كأنثى تُدرّب على الحذر، بل كوصية كُتبتْ في صدر الزمن، تحفظها العيون كما يُحفظ النذر.
كبرتُ في بيت يعرف أن البنت لا يُقصّ جناحيها، بل تُدهن بالضوء كل صباح، وأن الحياء لا يُزرع خوفاً، بل يُهدى حباً، وأن العيون التي ترافقها ليست حراساً، بل دعاءً يمشي على قدمين.
أنا ابنة الحور إذا حنّ، وابنة التراب إذا تعطّر بندى الجدات، وابنة الفرات الذي إن غضب أغرق، وإن رقّ أطعم العالم من فرحه..
كبرتُ لا كأي طفلة في زاوية بيت يضيق بأنوثتها، بل كقصيدة فاخرة يخبئها أبي في جيب صدر.. يقرؤها كل فجر قبل أن يشرب قهوته.
كأنني دعوة تعبَت السماءُ حتى وصلتها.. كنتُ سيدة المجلس وإن سكتُّ، وحكم الزمان وإن صغُرت، ودفء الشتاء وإن غبت.. أنا تلك التي لو مشت بين الرجال مشوا على أطراف الكلام، كي لا يوقظوا حيائها.. ولو جلستُ على قارعة حلم، لأقام أخوتي سوراً له كي لا يمرَّ به غُراب غريب.
كأني قطعة من سماء هبطتْ بالخطأ بين الطين، يلفها الدفء كوشاح صوف جدلته الجدات تحت الضوءالقليل، تُحاط بعيون لا تنام.. تُخبأ من النسيم، ويُغار عليها من الضوء..
قالوا: البنت نصف المجتمع.. لكن أمي كانت تقول: هي المجتمع.. وصية بلا أوراق.. ملكة بلا تاج.. حين يصبح صمتها دعاء، وكلامها صلاة لا تُجهر، بل تُحفظ في القلب.
في بيتنا، لم تكن البنت تلبس الورد، بل كانت هي الورد، وكان النسيم يستأذن إن مر على خدها، والحزن يتوضأ إذا اقترب منها.. كأنه يصلي بين يديها لا عليها.. كنتُ أنام على ذراع أخي، كأنه سور بيت لا يسقط.. وكان أبي إن مرضتُ، يضع كفه على جبيني كأنها شمس تضيء ليلاً، ويقرأ من سورة يوسف، لا ليشفيني فقط.. بل ليعلمني جمال الصبر حين يُروى بالحب..
طفولتي لم تكن طفولة، بل أنشودة.. الحب فيها لا يُقال، بل يُزرع في الظلال.. والحماية لا تعلن، بل تمارس كأسرار الأنبياء والحنان، يُسكب كما يُسكب المطر على نبتة يتيمة.. من دون ضجيج ثم.. جاء الرحيل، لم يأخذني إلى مدينة، بل إلى نَفَس غريب.. إلى لغاتٍ بلا لهفة، وشوارع بلا وجوه.. إلى بلاد تمشي فيها النساء كأنهن ظلال.. لا أحد يراهن لأنه لا أحد يرى.
هناك شوارع شاحبة تبيع فيها المرأة ضحكتها لرجل لا يعرفها.. مدنٌ باردة.. العيون لاتعرف أسماءها ويُباع دفء الروح ليُشترى به كسرة خبز. مدن تُنصب فيها تماثيل العاريات، لكنها لا تقف لامرأة تُطعم أبناءها من جوعها وصمتها، حيث البنايات تلامس الغيم، كانت صديقتي الفرنسية تبكي، لا أب يسألها ولا أخ يحمل عنها، ولا زوج يرمم بها تعبه.
تتذكر كلامي عندما كنتُ أقول لها: في بلادي قد تُحجب البنت عن عين الشمس، لكنها لا تُعرض على ناصية الجوع. تُربّى على الحياء لكنها لا تُدفع لأن تبيع جسدها لتشتري يوماً آخر. كانت تقول لي: أحسدكن.. أنتن تعاملنَ كأميرات في بلادكن.
هناك، عندهم تعلمتُ كيف أقرأ وصفة طبية، لكنني لم أتعلم كيف أكتب رسالة شوق.. ضحكتي التي كانت في الرقة تسقي العابرين فرحاً، ذبلت على أرصفة لا تسأل، ولا تنتظر.. كلما حدثتني امرأة عن "التحرر" تذكرت عباءتي، وتذكرت ظل أخي، وتذكرت يد أمي وهي تغطيني وتهمس: "بردانة.. يوم؟"..
في مدنهم، الحرية تقاس بما تنزعه المرأة عن جسدها، وفي بلدي، بعيون تحرسكِ إن غفوت، بقلوب تقيم قيامتها إن تأخرتِ من دون سؤال.. لأن المحبة أسبق من التبرير.
هناك، تكرم المرأة إذا خرجت عن ذاتها، وفي بلدي، تُقدس إن عادت إليها.. في بلدي الحرية أن تلبس المرأة كرامتها عباءةً لا تُخلع.
عُدتُ.. عدت لا كمن ضاعتْ ثم وجِدَت، بل كمن كانت نبضاً غاب عن اليد ثم عاد، فنبضت الحياة من جديد.. عدتُ، وفي يدي شهادة علم، لكن في قلبي شهادة شوق، وفي صوتي صلاة علقتها أمي في طرف مخدتي يوم الرحيل، وقالت: عودي كاملة.. لا يُنقِصِك الغياب..
لم أعد كما كنت، لكنني عدتُ بما يكفي لأزرع ظل أمي في كل غربة، وأقول للريح: هنا بيتنا، فلا تعبري.. لم يضعني الله في رحم أمي لأكون عدداً في تعداد النساء، بل لأكون مقاماً في نسيج الأرض.. مقاماً يُزار، لا يلغى.. صحيح أن في مدينتي لا يوجد ناطحات سحاب، لكن النساء مرفوعات بالحب، لا بالخرسانة.. لا تُباع الأنوثة.. تُزار، لا تُستهلك.. تُقدس..
في مدينتي، المرأة ليست ظل رجل، بل ظل دعاء.. سجدت له السماء.. لا أحتاج فيها من يعلمني كيف أكون امرأة، فالأنوثة علمتني إياها.. الرمال حين لانت تحت القدم، والماء حين احتضن الضفتين، ولم يسأل من أين جاء الجفاف.
علّمني الفرات أني إن رضيتُ، سقيت.. وإن حزنتُ أغرقت.. وإن ابتسمت أزهرتِ الأرض من عطري.. فأنا لست واحدة من النساء.. أنا أنا.. أنا ابنة هذا الوطن الذي لا يظهر في نشرات الأخبار، لكنه محفور في جلد التاريخ كوشم لا يُمحى.. وإن أراد أحد أن يعلمني كيف أكون امرأة، فليركع أولاً على تراب مدينتي، وليغتسل من طين الفرات، ثم ليأتِ مهرولاً.. عسى أن يلحق بحضارةٍ كانت أنثى قبل أن تُخلق الحضارات.
* كاتبة سورية، تستخدم اسماً مستعاراً، حسابها على موقع فيس بوك وطفة الفرات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.