وطفة الفرات *
حين يغزل القدر خيوط اللقاء، لا يشاورنا كما تفعل النيات، بل يفاجئنا كما يفاجئ المطر غريباً تائهاً في صحراء لا تعرف المطر.
في اليوم الأول، كنت واقفة في مقهى القطار، والثلج يسرد على الزجاج حكايته الباردة، بينما الضباب ينقش على الطريق أغنية قديمة بلا كلمات. كنت أراقب الأفق وهو يلتف مثل أفعى بيضاء، وكأن الزمان يتلوى من برد الحنين. هناك، انشق صمت المكان بصوت جدال يحمل بين طبقاته خزي الإنسان حين يُعرّى من ضروراته.. التفت فرأيتُه، رجلاً يقف في وجه العالم كما يقف النسر الجريح في وجه العاصفة، يجادل مفتشاً جامد الملامح، يشرح ويبرر، كأنه يتفاوض مع الغرق لا ليهرب، بل ليؤجل الذوبان.
كان وحده، يشبه القصائد التي نُسيت على رصيف محطة، وكان قلبي آنذاك يصغي إليه قبل أذني. لم يكن لديه ما يدافع به عن نفسه سوى حقائب تشبه نعوشاً صغيرة تحتوي على ما تبقى منه. تذكرت أنني حجزت مقعدين، لصديقتي التي لم تأتِ ولظلها الذي لم يصل. تقدمتُ نحوه كمن يقدم غصن زيتون في زمن الحروب الصامتة، وقلت:
- هل تقبل مساعدتي؟
نظر إليّ، وكان في عينيه ما يشبه حكاية وطن فقد حدوده وحنّ إلى غربته.. قال:
- لا حق لي، ولا واجب عليك.
تركته وعدت، كمن يشعل شمعة في غرفة مظلمة ثم يتركها، لكنه لم يطلب، لأنه يشبه أولئك الذين يفضلون الغرق على الدين.. ولكن حين مدّ المفتش يده كأنما ليقص الصفحة الأخيرة من كتابه، اندفعت نحوه وأعطيته التذكرة. فعلتها كما يفعل القدر حين يغيّر وجهة حياة دون أن يطلب الإذن من أحد.
امتنان الغريب ليس نهاية، بل فصلاً أول في رواية لا نعرف كيف ستُكتب.
امتنان الغريب ليس نهاية، بل فصلاً أول في رواية لا نعرف كيف ستُكتب.
في اليوم الثاني، جلسنا جنباً إلى جنب، بيننا كرسي واحد وفضاء مفعم بالاحتمالات. كنت أعلم أنه لا يملك مالاً، فدعوتُه إلى فطور يشبه المصالحة مع الصباح. عاد بتردد، لكن حين وضعت أمامه القهوة والفطائر، ابتسم كأنما الحياة مرت أمامه للمرة الأولى دون أن تجرحه.
قال: بالأمس كنت مكرهاً، أما الآن فأنا أختار. وأختار أن أقبل.
قال: بالأمس كنت مكرهاً، أما الآن فأنا أختار. وأختار أن أقبل.
بدأ الحديث بيننا كما تبدأ النبوءات، بغير صخب، لكنه امتلأ برنين داخلي لا يُفسر.. حدثني عن المدن كما تحدّث الأم طفلها عن أجداده، قال إن قرطبة همست له بأن الشعر لا يموت، وإن غرناطة مازالت تبكي ملوكها من خلف النوافذ. تحدّث عن الحجارة كأنها صدور تتنهّد، وعن النوافذ كأنها أرواح معلقة في الفراغ. قال:
- هناك قصيدة تقول: الأبواب مفتوحة، لكن القلوب مغلقة.
ضحكت، كأنني أستدرجه إلى اعتراف لم يُولد بعد، وقلت:
- أبواب القدر تُفتح دون طرق.
نظر إليّ نظرة لم تكن من هذا العالم، وكأنني لست صدفة بل سطراً ضائعاً من كتاب كان يبحث عنه.
في اليوم الثالث، عند محطة صغيرة، صعدت فتاة تطلب مساعدته. لم يكن بيني وبينه شيء يبرر شعوري، لكن الغيرة لا تبحث عن تبرير، إنها تنهض في الروح كما ينهض العطش عند سماع خرير ماء. شعرت بذبذبة في القلب لا تشبه شيئاً، كأنني فقدت شيئاً لم أمتلكه بعد. تجاهلت الأمر، لكنه لاحظه، وضحك:
- هل شعرتِ بالغيرة؟
قلت باستعلاء هش:
- أنا؟ بالطبع لا.
فقال: الغيرة مثل الريح، لا تُرى، لكن تُربك الأشجار.
ابتسمت، وكنت أفكر: ماذا لو لم تمرض صديقتي؟ ماذا لو لم أكن وحدي؟ هل كُتب لهذا اللقاء أن يولد؟
- هل شعرتِ بالغيرة؟
قلت باستعلاء هش:
- أنا؟ بالطبع لا.
فقال: الغيرة مثل الريح، لا تُرى، لكن تُربك الأشجار.
ابتسمت، وكنت أفكر: ماذا لو لم تمرض صديقتي؟ ماذا لو لم أكن وحدي؟ هل كُتب لهذا اللقاء أن يولد؟
نزلت في إحدى المحطات لأشتري بعض الفطائر من امرأة تبيع الزمن في شكل معجنات. أضعت اللحظة، ولم أنتبه إلا وصوت صفير القطار يعلن أن القصة تكاد تفلت من بين يدي. التفت، فرأيتُه من النافذة، ينهض كمن يستفيق من غفلة الحياة، ثم يركض نحوي، كأنما أدرك أنني الجزء الذي لا يجب أن يُفقد. ركضت أيضاً، وقفزت في اللحظة التي تفصل بين النجاة والندم.
قال لي وهو يلهث: الفرص لا تأتي مرتين. أما قلتِ هذا؟
ابتسمت، وأنا أشعر أن الحياة أحياناً تعيد لنا كلامنا حين تنوي أن تكتبه على جبيننا.
حين وصلنا موسكو، وقفت عند باب القطار. كانت المدينة تمد لي ذراعيها الباردة، لكنه مدّ يده إلى حقيبتي بدلاً من السلام، وقال بصوت يشبه اليقين:
- أضعت أول فرصة، وكنت جباناً في طلب الثانية. لكن هذه… لن أضيعها.
ومشى بجانبي، لا كغريب يودع، بل كمن قرر أن يمشي معك الرحلة التالية..
الحياة ليست أحداثاً، بل تفاصيل تشبه الخيوط. بعضها شفاف، وبعضها ناصع، وبعضها يُخاط على هيئة صدفة، لكنه في الحقيقة، خيط قدر تنكّر في هيئة لقاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.