أحمد عواد الشلاش: فلسفة الجمال في الذائقة العربية - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الأحد، 11 مايو 2025

أحمد عواد الشلاش: فلسفة الجمال في الذائقة العربية

 



أحمد عواد إبراهيم الشلاش *

قد يتساءل أحدكم: كيف تعرّف الفن الجميل من منظور فلسفي سياق الثقافة العربية؟

بداية لنتفق على أن الفلسفة لا تبشر بحقيقة، وليست وعداً بالحرية والسعادة، بل هي نبش في الأسس وتعرية للأصول وإزالة الأقنعة وفضح الأوهام. 

هذا التعريف يفتح نافذة على الجمال كمفهوم واسع ومركب، فالجمال عند الإغريق كان مفهوماً مطلقاً، مثل الخير والحب والحق.. لذلك كان فيداس محقاً عندما استعار لفينوس جمال الفتاة الدمشقية (سبازيا)، فحوّلها إلى جمال فراغي يعتمد على البعد الثالث، يخلق الانفعال ويربك الحيرة. وقد تعمد أن تكون فينوس من دون يدين.. كأنه أراد أن يقول للناس: إن الجوهر في مكان آخر، والكمال لا يعني تمام الجسد. 

لكن فلاسفة الغرب كان رأيهم أن الجمال مفهوم ذاتي، وأن عقل الشخص هو من يحدد الجمال. يقول هيوم: الجمال ليس ميزة في الأشياء بحد ذاتها، هو موجود في العقل الذي يتأملها.. ولهذا كانت النظرة الغربية إلى الفن كقيمة من قيم الجمال لا تتعدى الذوق والمنفعة.. أما العربي وعلى الرغم من أنه ابن لـ"جغرافيا" كان للحضارات فيها قصب السبق في الذهاب بعيداً في مجال الفن بشكله التجسيدي، انطلاقاً من بلاد حضارة سومر، وليس انتهاء بالكلدان، مروراً بأوغاريت والفينيقيين، إلا أنه التزم فنّ القول (الخطابة والشعر)، واستطاع أن يحول الكلمة إلى لون والقصيدة إلى لوحة، فمن يقرأ وصف الملك الضليل لحصانه سيجد التجريد في (كجلمود صخر حطه السيل من علِ).. والسوريالية في (له أيطلا ظبي وساقا نعامة .. وإرخاء سرحان وتقريب تتفل).. وكذلك أزعم بأن أي رسام يقرأ قصيدة دعد للشاعر دوقلة المنبجي، سيرسم لنا دعد كما وصفها الشاعر، وكذلك هريرة الأعشى وعبلة عنتر.. وهلم جرا.. 

لقد كان الشعر هو العدسة التى يستخدمها الشاعر حتى يصور الصور الجمالية، مستعيراً من الظباء العيون، ومن الخيل الكبرياء، ومن البدر الضوء والوضاءة.. واستمر الحال على ما هو عليه حتى بزوغ فجر الإسلام، وتشكل أول خط عربي من خلال كتابة القرآن الكريم.. إلا أن الإسلام - عند بعض الفقهاء والمفسرين - جاء منكراً التجسيم والتصوير، فذهب الفن العربي إلى الاستثمار في فن الزخرفة والنسيج والزجاج، وتشكيل المعادن.. وكان "ابن مقلة" أول خطاط عربي حسب بعض المصادر، فهل يمكن القول بفلسفة تلك الحالة الفنية؟ 

هذا سؤال يحتاج إلى الكثير من الإسهاب، والرجوع إلى دراسات ومؤلفات كانت لوقت قريب تطرق أبواب الفلسفة على استحياء وحذر، كون الفلسفة متهمة بالتزندق على قاعدة لا أدري لغاية اليوم حيثياتها، وهي (من تمنطق تزندق).. لكن يمكن القول إن المذاهب الفنية العربية كانت في جوهرها ذات مذهب فلسفي صوفي. صحيح أن بذرة الفن العربي تأخرت قروناً، وكانت بداية بزوغها مع الخط العربي القرآني، وبعدها انطلق الفنان العربي محاولاً إرضاء ميل الإنسان الفطري إلى الجمال، من خلال الزخرفة النباتية وفن الأرابيسك والنسيج، وكانت الغاية دائما تهذيبية روحانية ومن ثم إبداعية.. وهذا ما يلاحظ اليوم في المساجد والقصور والعناية الفائقة في فن العمارة، ولا أدل على ذلك ما تركه العرب من فن بديع في العمارة والهندسة الفراغية والزخرفيه الحروفية في بلاد الأندلس (إسبانيا) اليوم.. 

لكن الفنان العربي ظل يجانب الاقتراب من رسم ذوات الأرواح إلى تاريخ ليس بالبعيد، مستعيضاً عنها بمحاكاة الطبيعة ومجاراة هندسة الكون البديعة، فالفنان العربي قبل أن تنفتح عليه نوافذ الفن لدى الأمم الأخرى، ظل الصوفي الذي يبدع، ويحاول الارتقاء بعيداً عن الابتذال والغواية بقصد تهذيب السلوك والسمو بمشاعر الإنسان، وذلك لإدراكه لما في الطينة البشرية من ميل نحو الشهوات.. 

والجمال عند العربي لخصه الغزالي بقوله: (كل شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإذا كانت جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو غاية في الجمال).. فالجمال إذاً عند العربي مرتبط بالأخلاق أو فلسفة الأخلاق، فليس عند العربي إلا: "أخلاقي".. و"لا أخلاقي".. في حين أن فلسفة الأدب والفن في الغرب تصنف الجمال بـ"أخلاقي".. و"لا أخلاقي".. و"بعيد عن الأخلاق".. إلا أن هذه المعايير انكفأت بعد أن ظهرت في الغرب فلسفة ما بعد الحداثة، فأصبحت ما يسمى النسبية المطلقة هي المعيار الوحيد، فظهر في الأدب ما يسمى بالنهاية المفتوحة، وأيضاً التأكيد على مسألة الإبداع المطلق، حتى لو كان يعادي الإنسان، فالمرجعية النهائية هي الإبداع وليس الإنسان، فبات الجمال منفصلاً عن المنظومة الأخلاقية، عن الانسان بالتالي، وذلك من خلال التركيز على العمل الأدبي أو الفني كبنية هندسية مرجعيته ذاته.

 فأنت تجد أن الفن التشكيلي ما بعد العام 1900 ميلادي قد ذهب إلى التسطيح اللوني، وإسقاط أي منظومة إنسانية من خلال تكوينات هندسية برغم ظهور الانطباعية.. وذلك عندما تحولت علاقة الإنسان بالإنسان، وكذلك علاقته بالقيم والطبيعة إلى علاقة تعاقدية ونفعية بالدرجة الأولى.. فاختفى في الشعر (دونجوان) الشاعر بايرون، ولن تجد روميو وجوليت بعد أن تقدمت القيمة المادية على كل قيمة أخرى.. لكن الجمال عند العربي ولليوم وبرغم الضربات التي تلقاها ومحاولات الخلخلة التي تعرض لها.. لازال ميدانه مجال الشعور والوجدان، وليس مجال العقل والقضايا المنطقية، ولازلنا نجد لكل ليلى ألف شاعر مجنون، ولكل قيس ألف زهرة وعبير روح روحها يهمس في الليالي الوضاحة: "هيت لك".

* كاتب وفنان تشكيلي سوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.