وطفة الفرات *
أحمد عواد إبراهيم الشلاش.. "البهَضْ" كما يسميه أبوه.. و"أمير الغَمر ورسول الحرف واللون" كما أُحب أن اسميه ويليق به.
نبوءة حبر انبثقت من رحم الطين.. اسم لو نقش على الماء لامتنع عن الجريان.. ولو كُتِبَ على الرمل لاستحى الريح أن يمحوه. لا يُقرأ كاسم ٍ إنما يُتلى كترانيم الذاكرة حين تعانق الحبر، وتبتهل للمعنى.
ولد على ضفاف الفرات.. لا كمولود يصرخ بل كفكرة ٍ تتنفس.. كأن الطميَّ خطّهُ، والماء نقشهُ، والوجع علّمه كيف يكون الإنسان معنىً لا مثالاً.
ولِدَ كقصيدةٍ انفلتت من فم النهر.. وكأن الماء قد أنجب كاتباً لا يجفّ قلمه، وفناناً لا تشيخ ريشته، وفيلسوفاً يشربُ من عمق الوجع ليكتب من ضوء الفكرة.
ولد وفي فمه نَغمة، وفي قلبه مكتبة، وفي روحه مرآة لأزمنةٍ شاخت، فأعاد لها في مداده شباباً.
ليس كاتباً من أولئك الذين يقطفون من الوجع وردة ليعلّقوها على صدر نصّ، بل هو من يغرس في كل سطر جذراً وينحت على كل بياضٍ معبداً للمعنى.
إنه من سلالةٍ تتوضأ بالعلم، وتتهجد بالفكر، وتغفو على صدرِ الحكمة.. تربى على ضوء السراج لا على ظلّ المرايا.. من رحم الجزيرة العارفَة، من أسرةٍ بينَها وبين النور صلةُ دم، ووشائجُ من ورقٍ ونور، تربّى في حِجر العلم وتفيّأ بظلّ التقوى ومشى على دروبٍ عرجتْ من الأرضِ إلى العقل.
هو أحمد.. سليلُ الورق، وريثُ النور.. عاشقُ الفكرة المتجلّية في غيمة.. أو المرتحلة من وجعٍ إلى نصّ.. كاتبٌ لا يُسطّر ما يُقال بل يكتبه كما تُكتب الصلاة: بخشوعٍ وبُكاء وبانتظارٍ دائمٍ للوحي.
أما الأصل.. فهو من شجرةٍ طيّبة الجذر سامقة الظل.. هو ابن الشيخ الذي إذا مشى على التراب.. أنبتَ العقلُ في أثره نبتةً من رجاء.
أما الأصل.. فهو من شجرةٍ طيّبة الجذر سامقة الظل.. هو ابن الشيخ الذي إذا مشى على التراب.. أنبتَ العقلُ في أثره نبتةً من رجاء.
"الشيخ عوّاد إبراهيم الشلاش" - رحمه الله - مرجِع الفكر حين يشحُّ النور، ومفتي المعنى حين يضلّ السائلون.. موسوعةٌ تمشي على قدمين، وعينٌ ترى من الثقوب الصغيرة أفلاك المستقبل.
"عارفة الرقة والجزيرة وعشائرها وشويرتها".. يُستنار برأيه كما يُستنار بمشعلٍ في العتمة، وتُطلب مشورته كما يُطلب المطر في قيظ الهجير.. فجاء أحمد استمراراً لنورٍ لم يخفت، وحلقةً في سلسلة من الرجولة التي إذا مشت على الثرى نبتَ من أثرها فكرٌ وأمل.
ورث عن أبيه المجد لا لقباً بل جوهراً.. ورث المكانة لا وجاهةً بل رؤيةً.. لكنّ أجمل ما تسلّمه من ميراث، لم يكن نسباً رفيعاً ولا شرفاً اجتماعياً عظيماً فحسب، بل ورث الحبر.. وَرِث ذلك الحنين اللاهث للكتاب.. ذلك العشق الأبديّ للحرف.. تلك الرغبة التي لا تخبو أن يظلّ قارئاً حتى حين يَكتب وسامعاً حتى حين يَنطق المعنى.
لم يسكن القصور بل أقام في هوامش الكتب.. بين هامش فكرة وسطر معنى وعنوان وَجع.. الكتاب معبده، ومحراب فكره، ومهوى قلبه.
قدّيس الحرف، وزاهد الريشة، متصوفٌ على أعتاب المعنى. قلمه محراثُ وجدان، وريشته سراج وكتاباته ليست كلاماً يُقال بل رؤى تُبصر.. ومرآةٌ تجرح من فرطِ صدقها.
طفولته لم تكن فصلاً من عبث، بل كانت معراجاً من الرماد إلى الروح، عاشها حراً كذئب.. وعارياً من الزيف كصقر، يغني للنهر حين يجوع، ويرسم للعتمة باباً حين تضيق عليه البلاد.
هو الولدُ الذي خرج من خاصرة النهر، وعلّم الطفولة أن تحبو فوق رُكام الذاكرة، فكانت "أرض الغمر" بالنسبة له أكثر من مسقط رأس.. كانت رحم المعنى وبوابة الوجع المقدس.. فحمل وجعه حين ارتحل قسراً عنها لا في جيبه، بل في خلاياه، وجعل من مرتع طفولته "الجابرية" أيقونة وجدان، ومن مدينة "الرقة "شاهدة صباه و"فراتها" موطناً يسكنه ولو في المنفى.
لم يَعُد إلى هذه الأماكن في “مراثي الغمر المنسيّة” وكتبه الأخرى ونصوصه الباذخة ككاتب بل كملاكٍ يرثي الجغرافيا، ويفتح للحنين أضرحة الكلام.
هو المثقف الفيلسوف الرسّام العاشق لذوي الهمم العالية والأرواح الكبيرة.. لا يأنس إلا بأهل العلم.. لا يألف إلا من نذر نفسه للفكر.. لا يخاطب إلا العقول الراقية والذائقة النادرة.. ففي حضرته، يصبح الحرف زُجاجَ سُبحات، والفكر طريقَ نجاة، والقول جسداً له روح.
حين يخطّ، يسيرُ على الحرف كما يسيرُ القديسُ على الماء، لا يغرقُ في المجاز، بل يعبرُ من خلاله إلى ضفةٍ أعلى من الفهم، وأبعد من اللغة.
يمشي في نصوصه كما تمشي الغيمة فوق يبابٍ عطِش، يروي من دون أن يغرق، ويغيب ليعود أثقل بالمعنى.. الضعف عنده ليس هزيمة بل قوة لا يتقنها إلا من عرَفَ الهشاشة وعاشها. يكتب باللغة الأكثر صدقاً في وجعها، والأقدر على النجاة من دون قسوة.
في رصيده ستةُ مؤلفاتٍ قيد الطبع، لكنها ليست كتباً إنما كواكبُ تنتظر مدارها:
"تنتريون".. كتابٌ ساخر لا يضحكك بسطحية، بل يوقظك من غفوة المنطق، كأنّه يقلب المرآة على وجه الزمن فيرى فيه الإنسان وهو يضحك من عبثه.
"مراثي الغمر المنسية".. مأتمٌ أدبيّ يقيمه الحنين على ضفاف الطفولة، عزاءٌ لذكرياتٍ خُبّئت تحت التراب، وأغانٍ طينية ترتّلها الروح حين تستدعي صور الجابرية المبلّلة بالحب والألم.
"مقام للذكريات".. حيث كل مفردة شاهدةُ قبر وكل استعارةٍ نعشٌ لحلمٍ أُهدِر.
"أغنية الحباري الأخيرة".. روايةٌ تنقر الحبر بأجنحةٍ مكسورة، تصرخ من عمق الرماد، كأنّ الحباري نفسها كتبتها قبل أن تختفي، لتترك للقراء آخر لحنٍ قبل الصمت.
ومجموعةٌ من المقالات الفكرية والفلسفية والسياسية لا تسلك السبيل الممهد، بل تمشي على الأشواك بأقدامٍ من نور، تُفكّك الواقع كما تُفكَّك القنابل، وتبني من الحروف أعمدة لفكرٍ يليق بالنهضة.
حين يكتب، يكون وطناً صغيراً ينطق باسم وطنٍ كبير، يئنّ بوجع أمّة، ويضحك أحياناً بسخرية سوداء، كمن يزرع وردة في رماد.. ينبتُ من حروفه عطر الحكمة، ويورق في نهاياته ظِلُ الدهشة.
فكرياً.. هو تمثالُ تمردٍ نُحت من صخر التأمل، لا يقبل القشور، ولا يطمئن إلى أول الأجوبة.. يُشرّح المسلّمات كما يُشرّح الشاعر قلبه، ويقرأ الحياة كما يُقرأ النص المقدّس بتجلٍّ لا يعرف السأم وبشكٍّ يعانق الإيمان لا يُخاصمه.
لا يكتب لينجو، بل ليُشعل فيك جحيم السؤال.. هو لا يمنحك خلاصاً، بل يمنحك مرآةً ترى بها الشكّ وجهاً للحقيقة، وترى في الألم ترقيةً روحية وخلعاً لمفهوم الخلاص الكسول.
أما فنُّه، فلا يُحدّ بإطار ولا تُقيّده خامة أو فرشاة.. لا يرسم الوجوه بل يرسم الملامح التي لم تولد بعد.. لا ينقل الواقع، بل يعيد كتابته بخطوطٍ تشبه الحلم حين يتجلى، أو تشبه الحزن إذا ارتدى لوناً.. ريشته ليست أداة، بل سلاحٌ فكريّ، يفتك بالسطحية ويذبح الابتذال من الوريد إلى الوريد. في لوحاته تجد الفلسفة تشهق، والجمال يختبئ خجلاً والفرات يفيض مرةً أخرى.. لا بالماء، بل بالدمع النبيل.
كان دائماً المتمرّد الهادئ الحالم الواعي، والناقد العاشق. يقترب من الذات كصوفيّ يتأمل ظلّه، ويقرأ الوجود بعينٍ ثالثة لا ترى السطح بل تفتّش في الماورائيات.
في كل نصٍّ له وكل ضربة لون من ريشة مجنونة ثمّة مشروع تحرير، لا لجسدٍ أو وطن، بل لعقلٍ أنهكه الخضوع، وروحٍ نخرها الجهل، وذائقةٍ أصابها التصحّر.
أعمَل قلمه وريشته لا ليخاطب العيون، بل ليهمسُ في أذنِ الروح، كمن يعرف الطريق لا إلى العقل فقط، إنما إلى جوف المعنى.
إنه لا يحمل مشروعاً أدبياً وفنياً فحسب، إنما مشروعاً للنهضة.. يحمل فكراً يُصلّي للإنسان، ويحجّ إلى الحقيقة، ويحفر في الذاكرة لا ليستخرج الألم، بل ليصهره ويعيد سكبه إبداعاً وفكراً.. رجلٌ جعل من قلمه وتراً، ومن ريشته عوداً، ومن فكره سُلّماً يرقى بالذائقة ويوقظ الغافل ويُربك المعتاد.
أحمد الشلاش.. هو ارتقاءٌ بلا منبر، وثورةٌ بلا عَلم، وشاعرُ الحياة الذي كتبها على جسد الغياب.. وطنٌ من مجاز، وسيرةٌ من بلاغة، ووجدان كُتب عليه أن يوقظ ما نام فينا من أُمم.. في حضرته، يصيرُ القلمُ ناياً.. والفكرُ رُقيّاً.. واللغةُ جناحين من نور.
هو مرآةٌ كُسرت ألف مرة، فصارت كل شظيةٍ منها تلمعُ بحقيقة.. هو الرائي في زمن العتمة والكاتب الذي لو نُقش اسمه على صفحةِ ريح، لاستدار الزمانُ ليقرأه.
* * * * * * *
قولٌ لم يكنُ منصفاً ولا كافياً بحق أستاذي وكبيري الذي علمني السحر..
* كاتبة سورية، تستخدم اسماً مستعاراً، حسابها على موقع فيس بوك وطفة الفرات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.