عبدالرزاق بشير الهويدي *
على مائدة الحنين، حيث يسكن الأحبة في تفاصيل الذاكرة.. يوسف وسيخ الكباب الذي لم يُطفئه الجمر.
قبل أن تندلع النار في المدن، كانت لنا ليالٍ دافئة، نُضيئها بالصحبة لا بالجمر. نجتمع كل مساء أمام بيت يوسف، نضحك، نتمازح، نختلف على لا شيء سوى تفاصيل صغيرة، ثم نمضي معاً لنكمل السهرة في أحد المقاهي القريبة.
هناك، على طاولات الموراكو، كنا نخوض حرباً مصغّرة مع الموراكو، وكان يوسف دائماً المشاغب الأول، المشعل الخفي للأنس، والمصدر الذي لا ينضب من الضحك. نمضي معاً: جوهر، وعلي المسهوج، والدكتور عبدالرحمن، والمرحوم شلاش، وفواز العساف الذي لم تعجبه الموراكو يوماً، والدكتور أحمد عزو، وغيرهم كثير. بعضهم ينهي السهرة باكراً، وبعضهم يمضي مع اللعبة حتى ساعات متأخرة من الليل، تارة يغلب وتارة يغلبه الحظ.
كانت تلك الأيام تشبه الكنز الذي لم ندرك قيمته إلا حين بعثرته الأيام، فكل لحظة منها كانت تختزن في داخلها دفئاً خاصاً لا يُقدّر بثمن.. وكان لا بد للنقاش أن يبلغ في كل مرة مرفأه المعتاد: سندويشة الكباب. لم يكن الأمر خلافاً على الطعم فقط، بل امتد ليتحول إلى فلسفة لقمة. وكعادته، يطلق يوسف حكمه بثقة المجرب العارف:
أفضل لقمة عند التقاء السيخين.. ناضجة من الطرفين، تحمل من نكهة السيخ الأول والثاني شيئاً مختلفاً.. مثلنا تماماً: ناضجون بحكايات متناقضة.
أفضل لقمة عند التقاء السيخين.. ناضجة من الطرفين، تحمل من نكهة السيخ الأول والثاني شيئاً مختلفاً.. مثلنا تماماً: ناضجون بحكايات متناقضة.
فنحاججه، ونبالغ في وصف الكباب واللقمات والدهون المتسللة من الأطراف، ونضحك من جديته في أمر يبدو بسيطاً. لكنه كان يرى في البساطة عمقاً، وفي الطعم حكاية حياة. وكان يرد دوماً، بنفس ابتسامته التي لا تتغير:
جربوها مرة… وادعولي.
جربوها مرة… وادعولي.
ثم تبدلت الأيام.. ضاقت الأرض، وغابت الطمأنينة، وتفرّقنا كما تتفرق أوراق الخريف في مهب الريح. رحل يوسف كما رحل الكثير.. كل واحد مضى إلى ركنه في هذا الشتات القاسي، لكنهم تركوا خلفهم شيئاً لا يُنسى.. تركوا دفء حضورهم في الذاكرة، حيث لا يبرد الأنس ولا يخفت وهج الضحك. وكان يوسف في كل تواصل جديد بيننا، يطلّ من شرفته البعيدة ليسأل بنبرة الحنين
دعيتوا لوليمة؟ لا تنسوا السيخين! حطوهم بصحن لحال… هاي وصيتي. وقولوا هاي حصة يوسف.
ومنذ ذلك اليوم، صارت كل وليمة لا تكتمل إلا بذلك الصحن الخاص، حيث يستقر السيخان كعهد ووعد وذكرى. نضعهما بصمت، ونهمس أو نقولها جهراً: هاي حصة يوسف.
يوسف لم يكن مجرد صديق سهرة، بل كان مرآة لزمنٍ كانت فيه التفاصيل الصغيرة تصنع الفرح الكبير، وكان الليل يبدأ بسيخ كباب وينتهي بضَحِكات تُسند القلب المرهق.. من دون أن نشعر، كانت الحياة تعلّمنا أن الفرح الحقيقي يسكن في تلك اللحظات العابرة، التي لا ينتبه لها أحد إلا حين يغيب أصحابها.
نشتاق إليه... نشتاق لضحكاته التي كانت تصنع من كل جلسة حكاية، لحديثه المتحمس في لعبة الموراكو حين يقاطعها ليدافع عن فلسفته في لقمة الكباب. نشتاق لسهرات حسبناها عادية، فإذا بها الآن أجمل ما في ذاكرتنا. وكلما اجتمعنا اليوم على مائدة أو في سهرة، نُلقي نظرة على ذلك الصحن الصغير الخاص بالسيخين، فنبتسم بصمت، يختلط فيه الحنين بالشكر، كأن يوسف يشاركنا الجلسة بصوته وضحكته وهمساته التي لا تموت.
نعلم أن الزمان لن يعيد تلك الليالي كما كانت، لكن الأرواح التي جمعتنا ذات يوم مازالت تسكننا، كأجمل ما خبأته الأيام في قلوبنا. ويبقى السيخان في كل وليمة شاهدي حب ووفاء لذاك الزمن، واعترافاً أن أجمل اللحظات لم تكن في مذاق الكباب ذاته، بل في تلك الرفقة التي كانت تحيط به.
نشتاق... وليس لشوقنا حدود. نشتاق لذكريات لا توصف، وأيام لا تُنسى. نشتاق لتلك الأرصفة التي حفظت ضحكاتنا وهمساتنا، واحتضنت سهراتنا العابرة.
نشتاق للحظات الأنس وجلسات الرصيفة أمام بيت قائد كتيبة الرصيف كما كنا نسميه عبدالحمزة، وبرفقة أبي رهام وأبي أيهم وغيرهم كثير. نشتاق لأصدقاء الحصار، نشتاق إلى أبي أنور رحمه الله الذي لا يغيب عن الذاكرة، حاضراً بيننا في كل موقف، يطلّ من تفاصيل اللحظات، يرافقنا بصوته وابتسامته، وبآرائه التي أثبت لنا الزمن صدقها وصوابها. وإلى أصدقاء وزملاء العمل من النقابة، ومن التربية، ومن كل زاوية من زوايا الرقة. نشتاق لوجوه كثيرة لا تسعفنا الذاكرة باستحضارها جميعاً، لكنها جميعاً تسكن القلوب، وتحفظ دفء تلك الأيام.
نشتاق لكل لحظة سرقتها الحرب والأحداث قسراً، لكن الذكرى تبقى حاضرة، تحفظ الوجوه وتعيد لنا دفء تلك الأمسيات كلما استرجعناها في جلسات الحنين.
وإن طال الفراق، يبقى في القلب مقعد شاغر لأولئك الذين صنعوا من ليالينا قصائد فرح لا تُنسى. فإذا جمعنا اللقاء ذات يوم كما ندعو ونأمل، سنضع أمام يوسف صحن السيخين، فيبتسم كعادته قائلاً بابتسامته التي لا يطفئها الزمن:
شايفين… قلتلكم: أطيب لقمة هين.
* كاتب سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.