عمر الحمود: في البحث عنها - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الاثنين، 2 يونيو 2025

عمر الحمود: في البحث عنها

 


عمر الحمود *

ــــ منمنمة صوفية: (ركعتان في العشق, لايصحّ وضوؤهما إلا بالدم).
الحلاج

النص:
سيدتي الأثيرة، كيف اتسعْتُ صبراً لغيابِك؟ وخدّرني قولُ عاشقٍ، مسّه الهجر قبلي، وأضناه: (سلّمت روحي ويّاك ياشمس الغروب والــــ ماتشوفه العين تنساه القلوب)

فأنكرَني قلبي، هذا النسّاء الطارئ.. ورماني على كتف البكاء، وخاصمتني نفسي، وسلكتْ درباً غير دربي.

هكذا ناجى الرجلُ امرأةً غائبة حاضرة، هجرته ذات جدال.
وأضاف بحٍرْقة: أنا على حَيرةٍ، تفور، وتغلي.

أعود إلى صورتك الحيّة بين أوراقي الأليفة، فتبتسمين لي سمراء بلون القِرفة، ونكهةِ القهوة بالهال، وبَشَرةٍ مدهونة بزبدة ربيعٍ خصيب، ويفوح عطرُك الفاغم، وتهمس تفاصيلُ الحكايات، تبوح لي بأسرار سنواتك المحدودة في سُلّم العشق، فأشقى، وألتهبُ شوقاً، وأمدُّ شراع السؤال، وأبحر في يم قَلقٍ هائج، أريد صيدَ الإجابة:

كنّا أحلى إلفين فلماذا افترقنا؟
ويابنت (الحمولة) شنهو الـــــ غيّرك؟

وترتدي الصورةُ برودةِ الصمت، ويلّح الرجل في السؤال، فتعبس غاضبة، وتنفر منه.

وقد كانت قبلةً لعينيه، ومحراباً لصلاته.

يتوجّع أكثر، ويتقلّبُ، وكأنّ الريح تحته.

هناك خلل، أفضى إلى هذا النفور، ودنّس قدسية محبّة بينهما، ربّما الخلل في عالمٍ حوله، وربّما في داخله.

هذا يحذف بعضَ عقله، ولاتنفع معه رقية، أو تعويذة مع حرزٍ حصين، ولايعيده حضورٌ شغوفٌ لأخريات يخطبن ودّه، ولا يردّه تعليق صديقٍ نصوح: حكايتك مع تلك الأنثى تشبه مرويات الجدّات.

وينتفض بين تهوّرٍ وتروٍ بحثاً عنها، أو بحثاً عن نفسه التي هجرته، ويهرع بحواسه كلّها صوبها، يريد استرجاع أناه المأسور لديها، وبيمينه يرفع راية سلطانها عليه، وبلونين اثنين، لونه ولونها، لون غيمة حبلى بالمطر، تتشهّى شتاءً للهطول، ولون أرض عطشى، تراود الغيمة، وتقول: هيْت لك.

وبين اللونين نجمات مضيئات، تحلم بلقاءٍ موعود يضحك فيه الرجل للمرأة، وتضحك فيه المرأة للرجل، ويردد هاتفاً باسمها، ويُسقِط الأعراف والقوانين، ولتخلعْه القبيلة صعلوكاً في البراري، ولتعتقلْه مخابرات الحكومة متّهماً بانتهاك المحظور، وفي محضر التحقيق يقول: اسمي عاشق، ومعشوقتي عطر ياسمين ونارنج، وعتق خمر، حفظته خوابي دير عتيق، وكبرياء حرّة، تجوع، ولاتأكل من ثدييها.

وعمري ابتدأ مُذْ قابلتها في قبظٍ لاهب، هبّتْ سمومه، فلاذ البشرُ من شرّها بفراتٍ جارٍ، وهناك، وتحت الجسر القديم كانت لنا سهرة، امتدّت حتى أشرقت الأرضُ بنور الفجر، وكانت فيها لنا جرأة، انتهكنا فيها حرمة القِرطاس، وكتبنا بمشاعرنا مانريد، وقلنا: تبّاً لشِعرِ لا يخلّد تلك اللحظة.

ووافقتنا القول جنيّات النهر، وأغاني الصيادين، ونداءات العابرين من ضفةٍ إلى ضفة، وأذكار مريدين في خانقاه المدينة، وتهويمات السكارى في حاناتٍ قريبة...

واستجابت لنا القصيدة، أعطتنا مفاتيح خزاناتها المغلقة، والتقطنا منها الدرر، وفي رحابها فعلنا الممكن، واللاممكن، وتجاوزنا المستحيل، ورسمنا العالم من جديد، وبتشكيلٍ من ألوانٍ وكلمات، لاحظّ فيه لتيه وضياع، ولامكان فيه لدمارٍ أو خراب....

وأنا العبد الفقير للحبّ، أقدّس الأرض، وأميل للموسيقا، والغناء، وأعاشر الناس الطيّبين.

وشعاري: البياض للقلوب أحلى، والحياة قصيرة، فلتكنْ محبّة.

وقائمة أصحابي تطول: شاعر مجنون، ومحبّ مشتاق، ومدينة شيمتها العطاء، وعصافير الفرات، وأشجار، وفراشات، ونهر دفّاق و....

وأعترف بتهمة الحبّ بدون إكراه، وأضيف بأّن سيدتي الأثيرة هي روض رياحين في الجنّة، ازدهى عطراً وخضْرة، وتعالى بين مدائن من فضّةٍ وذهب، فأزلّه الجمالُ، وأخرجه الله مما كان فيه، وأُنزِلَ إلى الأرض، فتلقّاه عاشقٌ يسكنني.

وينفعل المحقق الغرير، ويصرخ كاشفاً الوجه الآخر للحكاية: مادمتً بهذا السمو والنُبل، ليش تركت المرأة تبعد عنك؟.

يقول له بهدوءٍ أذهله: هي مشيئة القدر، وقد تكون مرارة الاشتياق ألذّ من حرارة الوصل.
يستنكر قوله، ويقول: ردّك يوحي بأنّك من أصحاب السوابق في العشق!
يهزّ رأسه موافقاً.
ويقول المحقق على مضضٍ: هل من كلمةٍ أخيرة؟
يقول: أحتاج إلى همسها النديّ العازف ليرطّب هجيري.

وتستيقظ في المحقق الغيرة، ويهجس بصوتٍ خافت بعبارة سمعها ذات يوم: طوبى لرجلٍ يعطّر حياتَه بامرأةٍ وردة!

لكنّ شيطان القمع ينهض من قمقمه، ويقصي أفكاره الرهيفة، وبنزقٍ يزجرني: تحتاجُ إلى جلْدٍ وقطع لسان.

لا ألومه، فاليد التي تمسك السوط أناملها خشنة لاتصلح للعزف.

وأختم أقوالي: أُجلَد، أو أُسجَن، أو أُعدم، لافرق، فروحي أحرقتْ سفنَ العودة، وستبقى في بحثٍ دائم عن تلك المرأة حتى تجدها، ويخضرّ ماكان بيننا.

وأبصمُ على المحضر بأصابع يدي العشرة.

* روائي وقاص سوري



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.