عبدالرزاق بشير الهويدي *
مجزرة الأندلس – السبت الأسود في الرقة (19 آذار 2016)
حين صار الخبز ناراً، وتحولت الطفولة إلى رماد.
* * * * *
في يومٍ من أيام الرعب المنسي، نهضت الرقة من نومها على لحنٍ من لهب.. شارع تل أبيض، لم يكن أبيض ذلك الصباح، بل ملوناً بأشلاء الأحبة وبقايا النداءات الأخيرة.. محطة الكهرباء لم يعد النور فيها يعني الحياة، بل صارت الأسلاك ترتجف كأنها تئنّ باسم من انطفؤوا.
جامع الشراكسة لم يُبتهل فيه الدعاء، بل كانت مئذنته شاهدةً على ركعةٍ أخيرة لم تكتمل.. الدرعية، الزاوية التي كانت تنبض بالحياة، صارت حنجرةً مختنقة بالغبار، وجدرانها تهمس بأسماءٍ لم تُكتب في السجلات.. المشفى الوطني لم يُسعف أحداً، فقد كان الجرح أكبر من الضماد، والصراخ أعلى من سماعات الطبيب.
وفي البانوراما، نصف الصورة رماد، والنصف الآخر سؤال: من يحسب عدد القلوب حين تنفجر السماء؟ ومن يكتب أسماء الضحايا حين تتشابه الملامح في الركام؟
جلست الرقة في الزاوية الباردة من الذاكرة تكتب: أنا مدينة من صمت، لكنني لا أنسى.. لا أنسى فرن الأندلس حين عجن رائحة الخبز بالدم، ولا أنسى تل أبيض حين تشققت الأرصفة بأصوات من كانوا هناك.
في ذلك الصباح الخانق من شهر آذار، لم تكن الرقة على موعد مع الخبز، بل مع الدم.. ثماني غارات جوية شنتها طائرات الميغ التابعة لنظام الأسد وشريكه الروسي، أمطرت المدينة دفعة واحدة، كأنها تريد محوها من الخارطة.. لا ببطء، بل بذبحٍ فوري للبراءة.
لا رحمة في قلوبهم، ولا ذرة ضمير تردعهم عن سحق المدنيين، ودفن المدينة تحت الركام.. لا هدف عسكري، لا نقطة تمركز، لا معسكر…
لا رحمة في قلوبهم، ولا ذرة ضمير تردعهم عن سحق المدنيين، ودفن المدينة تحت الركام.. لا هدف عسكري، لا نقطة تمركز، لا معسكر…
حين بدأت الطائرات تحوم، لم يكن هناك إنذار، ولا متسع للهرب.. الناس في شارع تل أبيض، كما في كل شوارع الرقة، رفعوا رؤوسهم إلى السماء، لا بدافع الفضول، بل لأنهم يعرفون هذا الصمت جيداً.. العيون مشدوهة، والجميع يهمس في سره: اللهم سلّم.. لكن السماء لم تكن تنذر… بل كانت تتأهّب للفتك.
وفجأة… دوى أول انفجار، ثم الثاني، فالثالث… حتى اكتملت الثمانية.. تفجّرت السماء، واهتزّت الأرض، وتحول المكان إلى جحيمٍ لا يُحتمل. صرخات هستيرية، دماء تتطاير، وأشلاء بلا ملامح.. الناس يركضون حفاة، يبحثون عن وجوهٍ يعرفونها، عن جثثٍ فيها أم أو طفل.
لافتات العروض التجارية صارت خِرَقاً تتطاير، كأنها أعلام حزن معلقة في السماء.
في زوايا ساحة الكرنك، وفي قلب شارع تل أبيض.. ذاك الذي عُرف بـالشارع الذي لا يهدأ ولا ينام.. سادت فجأة سكينة قاتلة لا تقطعها سوى الانفجارات وصرخات المذبوحين على قيد الحياة.. المحلات التي كانت تنبض بالحياة صارت ركاماً.. الخبز تفحَّم تحت أجساد محترقة، والأطفال تحوّلوا إلى أجزاء مبعثرة بين الرماد.. رائحة الطحين امتزجت بالدخان والبارود، وامتدت غيمة الذهول على الوجوه. الناس يركضون بين الأرصفة بحثاً عن أحبّائهم… بين البندورة يد، بين الركام وجه، بين اللهب صرخة لا يسمعها أحد.
في زوايا ساحة الكرنك، وفي قلب شارع تل أبيض.. ذاك الذي عُرف بـالشارع الذي لا يهدأ ولا ينام.. سادت فجأة سكينة قاتلة لا تقطعها سوى الانفجارات وصرخات المذبوحين على قيد الحياة.. المحلات التي كانت تنبض بالحياة صارت ركاماً.. الخبز تفحَّم تحت أجساد محترقة، والأطفال تحوّلوا إلى أجزاء مبعثرة بين الرماد.. رائحة الطحين امتزجت بالدخان والبارود، وامتدت غيمة الذهول على الوجوه. الناس يركضون بين الأرصفة بحثاً عن أحبّائهم… بين البندورة يد، بين الركام وجه، بين اللهب صرخة لا يسمعها أحد.
في آذار الذاكرة، تساقطت الأرغفة من السماء مشتعلة… لم يكن الخبز وعداً بالشبع، بل فخاً منصوباً في وضح النهار. وصارت الطفولة رماداً يُذرّى في زوايا شارع تل أبيض،
ذلك الشارع الذي كان يسهر على ضوء المصابيح، فصار الليل يسهر على جراح مفتوحة، وعيون بلا أجفان.
ذلك الشارع الذي كان يسهر على ضوء المصابيح، فصار الليل يسهر على جراح مفتوحة، وعيون بلا أجفان.
الرقة لم تبكِ فحسب… بل شهقت، صرخت، وارتجفت بصمت يشقّ الحجر. تسأل: بأي ذنب؟ بأي ذنب حوّلت الغارات عطر الياسمين إلى بارود؟ وبأي ذنب خُطفت تلك الطفلة قبل أن تلمس لعبتها؟ قبل أن تضحك كما يليق ببراءتها، وقبل أن تنضج أحلامها الصغيرة… صارت ذكرى.
ما بين الطفولة والصبا، رُسمت على الجدران ملامح شابة كأميرة، اسمها أميرة، وعيونها كانت وعداً للحياة، لكنها غادرت قبل أن تقول: أنا هنا.
وطفلةٌ أخرى لم تكن تعرف الحرب، ولا تفهم لماذا يخاف الكبار من السماء. كل ما أرادته في ذلك الصباح لعبةٌ جديدة، دمية صغيرة بشعر ذهبي، رأتها أمس في واجهة المحل القريب من الفرن. وقفت بجوار أمّها، بين النساء المنهكات، تراقب العجينة تدخل النار… وتنتظر الرغيف، وتنتظر اللعبة. وفي لحظةٍ عابرة، وهي تحلم بعناق دمية صغيرة، هوى الموت من السماء.. الغارة لم تمهلها… ولم تُفرّق بين من أراد الخبز، ومن كان يحلم بلعبة.
لم تُعرف الطفلة باسم، لكنها بقيت رمزاً للبراءة حين تُغتال، وصورةً للحياة حين تُقصف وهي تبتسم. والأدهى… أن كل هذا جرى بحجّة محاربة الإرهاب. فأي إرهابٍ في عيون الأطفال؟ وأي خطرٍ في حلم لعبة؟
لقد اغتالوا الطفولة، وأميرة، اغتالوا الضحكة، الحلم، والمستقبل، وتركوا لنا سؤالاً يتيماً لا ينام: بأي ذنب؟
ثم تتوالى الأسماء... وجوهٌ حفظناها، وأرواح لا تُنسى: عبود الهواش، موسى الكرطة، علي العمير… رجالٌ بسيطون، لم يحملوا سوى أمل بحياة كريمة، وأحلام لبناء مستقبل أطفالهم. لكن الموت هبط فجأة، ومزق أجسادهم وقلوب أحبّائهم.
عيسى الكرط، المهندس الذي أحب الأرض، كان يفتح محله ككل صباح، لا ليربح، بل ليمنح الأمل. لكنه عاد جسداً هامداً، وروحه بقيت تهيم فوق أنقاض الحلم.. هايل الأسعد، عمار المفضي، محمد الراشد… اختُطفوا كما تُخطف الأغصان الندية، وبقيت رائحتهم في الهواء، ودماؤهم على الأرصفة تصرخ. زهرة، والدة محمد، احتضنت ابنها حين سقط الصاروخ، لكن القذيفة أخذتهما معاً… ومضت. ربا، الفتاة التي حلمت بمقعد دراسي ودفتر ملوّن، باغتها الموت، فاختُطفت من على الرصيف، وذبلت الحكاية في عيون أمها.
عزيزة القدرو… هل احترقت؟ هل تلاشت في الدخان؟ بقيت كهمسة ألم في الحارة.
لكنهم لم يكونوا وحدهم.. كانوا جزءاً من مذبحةٍ لا تسعها الذاكرة، عشرات، بل مئات، من أبناء الرقة، ممن لا نملك أسماءهم… لكننا نملك وجعهم. جاؤوا من الرميلة، والدرعية، والمشلب، والسباهية، والجزرة، ومعدان، والمنصورة، وعين عيسى… جاؤوا كما يفعل البسطاء دوماً: بقلوب مفتوحة للحياة، وأمل معلق على حبال الخبز.
لكن الطائرات لم تميّز، لم ترحم، ولم تتردّد. وها هي الرقة، تحمل جراحها وتمضي. ولأننا لا نملك أسماء الجميع… نحفظهم في القلب. نراهم في وجوه الأمهات، في حجارة الشوارع، في ارتجاف الدعاء على شفاه المكلومين. لم يكونوا ضحايا عابرين… كانوا الرقة نفسها، حين نزفت بصمت، وقاومت، ووقفت وحدها في وجه هذا الجحيم. وإذا كان عزاؤنا الوحيد أننا لم ننسَ، فإن وعدنا الأبدي أننا لن نغفر.
لن نغفر لمن قتل، ولمن صفق، ولمن كذب على الشاشات، ولمن باع دمنا في مقاهي الذل.
لن نغفر لمن رقص فوق الأشلاء، وتفاخر بـتطهير شارع تل أبيض من أميرة، ومن الخبز، ومن الحياة.
لن نغفر لمن رقص فوق الأشلاء، وتفاخر بـتطهير شارع تل أبيض من أميرة، ومن الخبز، ومن الحياة.
نحن من كنا هناك، من حملنا الجثث، من عرفنا الوجوه قبل أن تُمحى. نحن أبناء الرقة… ونحن من سيكتب الرواية، لا أنتم. ووعدنا… أن الرقة ستعود لكل شهيد حق، ولكل دم حساب. وشمس العدالة ستشرق… مهما طال ليل الخيانة.. سنقضي على الأقنعة، نُسمي الأسماء، ونُري أطفالنا من كنتم… كي لا تكونوا يوماً من ملامح الغد.
كل من برّر، أو سكت، أو شمت… هو شريك في الدم. الرقة لا تصفح للجلاد، ولا تنسى الصفعة. مدينة تنزف… لكنها تنجب من يكتب بدمها. سنكتب بدموع الأمهات وأشلاء الأطفال، ونفضحهم دون خوف. سنروي الحقيقة كما هي… لا نخشى مجرماً ولا نساوم على الذاكرة. ومن ظن أن القصف يخرس الأقلام… فليختنق بحبرها. ومن ظن أن الذاكرة تُحرق مع الخبز… فسيحترق بها.
وهذا وعد.
هذا وعد..
* كاتب سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.