عبدالكريم البليخ *
ألا تلاحظون معي أنَّ الدور الذي تؤدّيه المرأة داخل الحياة الزوجية لم يعد يشبه صورته الأولى، تلك الصورة التي كانت قائمة على الحضور العاطفي، وعلى ذلك النبض المشترك الذي يعطي للبيت روحاً ويُضفي على الشراكة معنى؟ لقد أخذ هذا الدور ـ كما يبدو في كثير من تفاصيل الواقع ـ ينزاح بعيداً عن جوهره، ليتمركز في مساحات هامشية لا تنفكّ تتكرّر فيها السوالف والمحادثات والاتصالات التي تتشابه حتى في بهتانها، وكأنها واجب يوميّ يُستهلك بلا أثر، يُستهلك إلى الحدّ الذي يجعل حضورها نفسه أسيراً لتلك التفاصيل الصغيرة التي تمتصّ الوقت والوجدان، من دون أن تترك بصمة حقيقية في كيان العلاقة أو في لحمتها الداخلية.
فها هي تنهمك في التنظيف؛ لا تنظيفاً يستعيد للبيت دفئه، بل كأنها تُشهر مكنستها في وجه الحياة نفسها، كمن يهرب من حوار لا يريد خوضه، ومن نظرة لا يرغب في مواجهتها، ومن سؤال صغير لو تركته يخرج لأربك سكونها. تعمل بجدّ، نعم، لكن العمل هنا يتحوّل إلى ملاذ، إلى وسيلة للهروب، إلى حركة متكرّرة تُسدِل بها ستاراً كثيفاً على المسافة التي تنمو بصمت بينها وبين شريكها. وينتهي نهارها بطبخة يعرفها الجميع، تتجدّد كل يوم، لا تحمل في نكهتها إلا أثر التعب، ولا تفيض إلا بما تبقّى في اليد من طاقة وفي القلب من انسحاب.
أما الزوج، فإن صورته ـ كما تبدو اليوم في كثير من البيوت ـ قد تراجعت على نحو لافت. صار وجوده يميل إلى الهامش، وكأن دوره سقط من مركز المشهد إلى أطرافه، حتى لم يعد يُنتبه إلى حضوره، أو يُعترف بمكانته كما كان. إنه يُجرَّد ببطء من الهيبة، من الاحترام، من تلك المكانة التي كانت تُمنح للرجل بوصفه شريكاً، لا بوصفه ضيفاً عابراً في مكان لم يعد يشعر أنه ينتمي إليه بالكامل. وما يزيد الأمر وطأة أنّ الاستياء بات يثقل كاهله، ذلك الاستياء الذي لا يملك أمامه إلا الصمت، لا لأنه ضعيف، بل لأنه اختار الهدوء حين رأى أن المواجهة قد تجرح، واختار الاحترام حين أدرك أن الصدام لا يجلب إلا مزيداً من القسوة. ومع هذا الصمت، تتجرّأ يد الآخر، فتتمدد سلطتها تحت مُسمى الحرّية مرة، وتحت مسمّيات أشدّ قسوة مرات.
ولم يعد خروج الزوجة من دون إذن زوجها حالة استثنائية مرتبطة بظرف طارئ، بل أصبح ممارسة اعتيادية، لا يُستشار بها الرجل، ولا يُؤخذ رأيه في أيّ شأن يتصل بالبيت أو بتفاصيله، بل يُطالَب ـ صراحة أو ضمناً ـ بأن يلتزم الصمت، وأن يتقبّل الأمر بوصفه تحوّلاً طبيعياً، لا حقّاً يُسلب منه. وإن جرؤ على الاعتراض، قوبل بالتجريح، وبالتعنيف اللفظي، وباتهامات تُحوّله فجأة إلى خصم، وكأن العلاقة الزوجية ساحة صراع، لا مكاناً يؤوي الطرفين، ويصون كرامتيهما.
هكذا تتشكّل اليوم في كثير من البيوت معادلة مختلّة؛ تُسقط فيها كفّة الاحترام المتبادل لحساب مفاهيم مغلوطة للحرية. حرية بلا ضوابط، وبلا إدراك لخصوصية مؤسسة قائمة أساساً على التكامل، لا على التنازع. ومن هنا يظهر الخلل: حين تتحوّل الشراكة إلى هيمنة، والحوار إلى صمت مُرّ، والحضور إلى ظلّ باهت لا يملك ملامحه.
ما الحل؟
ربما يبدأ الحل من إعادة تعريف الأدوار، ليس بمنطق السيطرة أو الاستحواذ، بل بمنطق العودة إلى الأصل: شراكة تُبنى على الاحترام، لا على فرض النفوذ. على الحوار الذي يسبق الحكم، وعلى الودّ الذي يسبق الواجب، وعلى إدراك أنّ العلاقة ليست سباقاً نحو السيطرة، بل محاولة مستمرة للبقاء قريبين من بعضنا رغم كل ما قد يثقل الأيام من ضغوط.
الحبّ ـ في جوهره ـ ليس سلطة تُمارَس، ولا مساحة يُحتلّ فيها موقع. الحبّ مشاركة، إنصات لما يُقال ولما لا يُقال، وتفهّم لوجدان الطرف الآخر قبل مطالبة الآخر بأن يفهمنا. ومن هنا فقط، يمكن للعلاقة أن تستعيد توازنها، وأن تعود شراكة حقيقية، لا ساحة تتنافس فيها الأصوات على من يعلو أكثر.
* كاتب وصحافي سوري مقيم في النمسا


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.