إبراهيم علي المطرود *
الذكريات والفرات وطعم الندى.. وعمر العاشرة وما بعدها من سنين...
عندما كنا صغاراً.. أنا وحسين وخليل وحميد وعبدالله.. كنا نلتقي عند النهر، ننتظر مجيء الصيف بكثير من اللهفة والسرور.. وبعد انتهاء العام الدراسي، ننطلق كالعصافير إلى الحقول والملاعب والفرات على الرغم من تحذيرات الأهل الحثيثة من السباحة في النهر..
- ديرم بالكم تسبحون هااا.. الميّة ما لها صديج.. والنهر سريع وكلو سوارات.. العبم بعيد عن المي عالجالي.. لا تنحدرون جوى الجرف يويلاد...
لم نكن نلتزم بتلك التعليمات.. كان خليل نحيلاً طويلاً أشقر.. ذا بشرة حمراء وشعر سلس طويل ينزل على عينيه حين يكون تحت الشمس.. يذوب كالدوندرما.. كذلك كان حسين ذا بشرة حمراء وشعر كستنائي اللون قصير وكثيف.. وقامته القصيرة البدينة تضفي لوحة من الظرافة والفكاهة الجميلة.. تنعكس على روحه الظريفة جداً.. لا يلحقنا عندما نركض.. أما أنا وعبدالله أسمران نحيلان معصعصان.. عِرْدان تقول سعالي.. متوسطا الطول، أجعدا الشعر.. نركض.. نقفز سواقي القمح الندية بخفة ومرونة.. تظهر رؤوسنا ونحن نناطط في حقول القمح.. ماعدا خليل، فكان يظهر وهو يمشي بسبب طول ساقيه..
رائحة الحقول تتثاءب مشبعة بالمياه.. تختلف هذه الروائح.. تختلف وفقاً لجهة الرياح.. إن كانت شرقية لا تستساغ، تختلط بحرارة الجو والماء والنباتات، وإن كانت غربية عذيبية زكية.. طيبة يمد عليها الراعي.
كالثعالب نركض.. نقفز.. نغني.. نضحك بلا حدود.
كالثعالب نركض.. نقفز.. نغني.. نضحك بلا حدود.
- انتبه أبو الخل وانت تچط الساجة.. انتبه على رجليك.. تقفز بتهور.. انتبه..
- لاتخافون علي.. تسابقون.. ولوووم ويركض..
- اركضم .. يالله....
- لاتخافون علي.. تسابقون.. ولوووم ويركض..
- اركضم .. يالله....
لسهولة وسلاسة الجري نمسك بأطراف ثيابنا ونرفعها عالياً.. ونعض عليها بأسناننا فتظهر سيقاننا السوداء النحيلة كأعواد القطن اليابسة.. بينما خليل ساقاه حمراوان نحيلان كساقي مالك الحزين.. أما حسين فكانت ساقاه سمينتان كمن يلبس جزمة أبيه، فلا يستطيع السير أو الركض مثلنا.. كالحسكل من خيل السباق...
ونحن في ركضنا وسيرنا باتجاه الفرات ربما مررنا بحقول البندورة والخيار والباذنجان.. نأكلها بعد أن نمرمحها بماء الساقية القادم من نهر الفرات.. فور وصولنا إلى النهر نخلع ثيابنا، وهي على العموم كلابية ونبقى في لباسنا الداخلي.. سراويل بهدلة حدث ولاحرج.. ليست مخصصة للسباحة..
كانت الصبايا من أعمارنا يساعدن أمهاتهن في أعمال البيوت.. وكنا نشاهد بعضهن إلى النهر بمرافقة أمهاتهن.. لجلب الماء أو غسيل الصوف... نحاول السباحة بجوارهن ونبدي مهاراتنا في السباحة فترتفع صيحاتنا ضجيجاً ومرحاً.. وعبارات وأغاني تضيع مفرداتها ومعانيها بين طيات وهزات الضحك والصراخ والماء.. كنت أمهر ربعي في السباحة والسبابيل وقد كاد يغرق عبدالله ذات مرة شمالي الزل لولا أن تداركه الصياد والسباح أبو الخرسة الذي كان يكبرنا بالسن ويسبح عكس التيار.. وهو الذي علمني فن العوم والغطس، فكنت أعبر النهر سباحة ذهاباً وإياباً بعد عدة سنوات..
حميد كان يرتدي سروالاً طويلاً فضفاضاً يمتلئ بالهواء عندما يسبح.. ويظهر كالبالون.. كنا نضحك كثيراً لذلك المنظر ضحكاً بريئاً.
كان همنا إبراز المهارات في السباحة لكسب التفاتة من البنات أو نظرة نحسبها إعجاباً.. أو ثناء.. نسبح على الشاطئ القريب.. لا ندخل إلى العمق..
- السباحة في الگيش.. لا حدا يغمج ياشباب..
بعد السباحة نذهب إلى صيادي الأسماك، نتحدث معهم ..
كان إبراهيم المخلف صياداً ماهرا يوجد دائماً بجانب الزل حيث يأتي السمك هناك.. تسير المياه بهدوء.. يقف في الماء صامتاً هادئاً واثقاً.. وسيجارته لا تفارق شفتيه.. يطلب منا بالإشارة الابتعاد عن مكانه.. يقول إن الأسماك تهرب عندما تسمع أصواتنا.. فنستجيب لطلبه.. كان يمنحنا من بعض الصيد عن طيبة خاطر وابتسامة بحجم الفرات..تندفع رائحة الفرات مع رائحة الزل وماتحمله المياه من عيدان وطمي.
- السباحة في الگيش.. لا حدا يغمج ياشباب..
بعد السباحة نذهب إلى صيادي الأسماك، نتحدث معهم ..
كان إبراهيم المخلف صياداً ماهرا يوجد دائماً بجانب الزل حيث يأتي السمك هناك.. تسير المياه بهدوء.. يقف في الماء صامتاً هادئاً واثقاً.. وسيجارته لا تفارق شفتيه.. يطلب منا بالإشارة الابتعاد عن مكانه.. يقول إن الأسماك تهرب عندما تسمع أصواتنا.. فنستجيب لطلبه.. كان يمنحنا من بعض الصيد عن طيبة خاطر وابتسامة بحجم الفرات..تندفع رائحة الفرات مع رائحة الزل وماتحمله المياه من عيدان وطمي.
الصيادون الآخرون أيضاً نعرفهم.. كانوا أيضاً يعطوننا بعض الأسماك التي لا تتجاوز الشبر.. ننظفها في ماء الفرات ونجمع الأعواد والأشواك.. نشويها ونأكلها دون تبلة أو ملح.. وجبة لذيذة لا يعرف طعمها إلا من تناولها مثلنا على شاطئ الفرات.
بينما بعض الصيادين يقف في قاربه يمد ويرمي شباكه في النهر قبل حلول المساء ليحضر في الصباح ليجمع ماعلق فيه من صيد ثمين...
بعد أن يحل بنا التعب..نعود أدراجنا إلى البيت كما أتينا ركضاً وقفزاً وغناء.. ولكن بعد أن نقوم بتجفيف سراويلنا من الماء وأن نمر على أحد الصنابير في أحد البيوت وغسل وجوهنا وأيدينا وأيدينا ومسح شعورنا بالماء كي لاينكشف أمرنا من أننا ذهبنا إلى النهر وسبحنا فيه، والعقوبة بعد ذلك جطل ودفس لا يحتمل مداهما.. لأنهم سوف يختبرون رائحة أجسامنا وحك ظاهر أكفنا وإن ظهر الخط الأبيض على ظاهر الأكف.. أكلناها فكان ماء الصنبور يزيل هذا الأمر ولا يترك أثراً.
أريد أعاشرچ والغنم راحت
شمس الگيظ ع المغيب راحت
لمست خديدها زجّت وصاحت
قالت دشرني يوليد الدوابا
* شاعر وكاتب سوري من الرقة
أريد أعاشرچ والغنم راحت
شمس الگيظ ع المغيب راحت
لمست خديدها زجّت وصاحت
قالت دشرني يوليد الدوابا
* شاعر وكاتب سوري من الرقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.