أحمد عواد إبراهيم: كل ما تبقى حلال لكِ - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الأحد، 13 أبريل 2025

أحمد عواد إبراهيم: كل ما تبقى حلال لكِ





أحمد عواد إبراهيم *

هي نافذة للهروب.. سقاية بماء الوهم كلما أرادت الرحيل إلى الذكريات.. منذ عامين دخلت إلى هذا الفضاء المشبع بالسحر والغرابة والغموض.. عندما نصحتها سميرة أن تنشئ صفحة لها على الـ"فيسبوك".. تتسلى وتطري ما أيبسه الزمن من حياتها التي أضاعتها بين أمنيات خابت في رصد الجهات الصحيحة، ونصائح والدتها التي كانت تهوي بها إلى بئر من العذاب.. 

تتأمل صورتها الرمزية.. لماذا اختارت هذه الصورة بالذات؟ فتاة تجلس على مقعد خشبي في حديقة صامتة.. تتناثر أوراق الشجر المصفرة فوق الممشى.. اللونان الأبيض والأسود مضغا كل شيء في الصورة، عدا وجه الفتاة وشعرها والأوراق التي تناثرت من حولها متلبسة بلون شعر الفتاة الأصفر.. هي تشبهني يوم كنت بعمرها.. إلا أن شعري كان بلون الكستناء.

ما إن يهطل الليل حتى تسرع إلى بيتها الافتراضي.. تتصفح الرسائل ثم تراجع قائمة أصحاب (اللايكات) التي نثروها على كلماتها أو الصور التي أعجبتها من المتصفح العام.. تراجع الردود المرصوفة بعناية والتي تفوح منها رائحة ذكورية مشرعة على ألف احتمال.. فعلاً كما قالت لها زميلتها وداد.. إن هذا العالم في مكان ما يشبه المستنقع الذي يجدد حضور الكائنات المؤذية.. كل الرجال في هذا الفضاء هم عبارة عن بوصلات منصوبة تبحث عن أي امرأة.. عليك أن تعرفي كيفية المشي بين وحل الرغبات، والكلمات المسكوبة على صفحتك بمناسبة أو من دون مناسبة.

أحست أنها في هذا العالم قد تحولت إلى مزار وثني مقدس.. الكل يترك عليه نذوره وقرابينه، ويسفح على مذبحه دم الكلمات المنمقة المزهوة بكذبها، مثل صياد ينثر الحبوب حول فخاخه على أمل أن تزهر رغبة هنا أو هناك.

منذ ليال وهي تداوم على الدخول إلى صفحة صديقتها، حتى تعيد قراءة تعليق كتبه أحد أصدقاء سميرة.. كانت الكلمات تشي بحالة مختلفة لم تعهدها في كل ما ألفته من تعابير تتسربل بالزيف والمبالغة.. لم تستطع منع نفسها من الرحيل إلى صفحة صاحب الكلمات.. لاشيء، سوى صورة الفراغ.. وعبارة تعريفية تركها صاحب الصفحة متاحة.. (كل ما تبقى حلال لكِ).. ضغطت من دون تردد على مربع طلب الصداقة، وهربت إلى الصفحة العامة.. وقد انتابها إحساس أنها تقف عارية وسط شارع مزدحم.. ثم ما لبثت أن أطبقت الجهاز وهي ترتجف..

مرَّ أكثر من أسبوع ولم يصلها إشعار بقبول طلبها، وكلما قررت إلغاء الطلب وقفت متأرجحة في منطقة الوعي.. فلا تدري أهي في ذهاب أم إياب.. لم تعد تهتم بما ينثره الأصدقاء على متصفحها، وأهملت الرسائل التي تتقاطر عليها بين لحظة وأخرى.. اللعنة.. كيف لمجهول أن يكون طاغي الحضور بهذه الصورة الملحة؟ حقاً إن المرأة كائن معلق بأذنه.. لا تقرأ الكلام فقط، لكنها تسمعه بنبرة تختارها بعناية فائقة.. نبرة تثبت عليها كل مشاعرها حتى لو أصابها الصدأ، فهي بحاجة للحب دائماً حتى تنزف، وتفتش عنه بسذاجة الضال الموقن حتى تحيا من خلاله.

نصحتها سميرة أن تجعل كل مواضيعها متاحة للعام، حتى إن فكر في زيارة صفحتها يجد ما يدفعه لقبول الطلب.. إن كان من هؤلاء الذين يمحصون الصفحات ويقلبونها قبل الموافقة أو الرفض.. لكن حتى هذه النصيحة لم تثمر على الأقل بعد مضي ما يقارب الشهر على الطلب.. قررت أن ترتاح من هذا اللهاث المضنى، وأن تكتب لمجهول تعمد إهانة شغفها وتعلقها به.. أدخلها لعبة من لعب الحياة عنوة.. وصارت سجينة لعبة بعينها.. الشك واليقين، الوهم والحقيقة، خامد ونشط.. هي تعلم تماماً أنها بدأت تشيخ، وبدأت أزهار جمالها بالذبول.. لكنها وكلما تأملت صورتها الرمزية أحست بدفق من الشباب يضج في أوردتها.. الوهم والأنثى لا تريد إلا ما تتوهمه.

حتى في الرسالة التي تركتها له، كانت كمن يركض بين أحلام تتداخل.. ثم تذهب إلى قيلولتها.. بينما هي تمارس الجري لكأنها تستعذب المضي في درب الخسارات.. وعند لحظة القطيعة بين الأرض والريح، تسقط كقطاة وحيدة في شباك الحمقى.

* كاتب وفنان تشكيلي من سورية، الرقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.