وطفة الفرات: قراءة في رواية باب الأبواب ليوسف دعيس.. الرقة التي صلت على نفسها - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الاثنين، 7 أبريل 2025

وطفة الفرات: قراءة في رواية باب الأبواب ليوسف دعيس.. الرقة التي صلت على نفسها

 




وطفة الفرات *

تقول وطفة الفرات في أول الحديث: الشكر كله لأستاذي أحمد عواد ابراهيم الذي أهداني هذه الرواية "باب الأبواب" لـ يوسف دعيس .. وكانت قراءتي لها:

(الرقة التي صلَّت على نفسها)
"العاشق لا يسأل الطريق، بل يمضي في الوله كما تمضي النار في الهشيم.. كل خطوة تُحرق شيئاً من ذاته، حتى لا يبقى فيه إلا الحق والحنين".
"باب الأبواب" ليست رواية، بل مقام شجيّ، تُتلى فيه تعاويذ الحنين على أطلال المدن المصلوبة، نشيدُ نواحٍ كُتب بحبر الذاكرة وماء النهر ودم الشهداء. هي ليست سرداً، بل إنها طقس، صكّ بكاءٍ تتلوه مدينةٌ تعبر من لحمها إلى ظلّها.

أربعة عشر باباً لا تُفضي إلى ممرات، بل إلى مقامات.. كل باب مقبرةٌ معلّقة، مرآةٌ تتشقق فيها وجوه المعنى، وترتسم على سطحها صرخات أُزهقت قبل أن تكتمل، وحروف جرّ ذُبحت في منتصف الجملة.

تقرأ الرواية كما تُتلى وصايا الأنبياء المنسيين.. كأن مدينة ما شربت من نهرين: أحدهما ماء، والآخر دم. وكل باب فيها نشيد جنائزيّ، مكتوب لا بالحبر، بل بعظام العابرين.

حين تصير الرواية صلاةً، والقتيل فكرة، والمدينة محراباً محطماً، يكتب يوسف دعيس لا كروائي، بل كعاشقٍ شهِق من فُرات الذكرى حتى اختنق.

كل سطرٍ نبوءة، وكل بابٍ مقام من نشيد قديم، عُزف في عزاء مدينة لم تمت، لكنها لم تعد تنهض.

الرقة في هذه الرواية ليست مكاناً، بل أنثى أُخذت عنوةً إلى سرير الحرب، ثم تُركت على قارعة الغياب، تتوسد خوذة جنديّ وتُغني لطفلٍ لن يُولد.. هي لم تُرثَ، بل سُبِّحت، كآلهة قديمة سُلب منها معبدها، لكنها ظلّت تؤمن أن النار ليست نهاية، بل بدء الخلق.

دعيس لم يكن يبني سرداً، بل يهدم يقيناً. لا ينسج حبكةً، بل يُفكك المعنى.. يكتب كما يصلّي السالكون في الليالي الممحوة: بالنشيج العاري، والخوف النقي، وبأسئلة لا تطلب إجابة، بل رجاء.

هذا الكتاب مقامٌ لا يُقرأ، بل يُقام. ليس لاهوتياً، بل أرضيّ حتى التراب، دنيوي حتى فنجان القهوة المرتجف في يد أمٍّ تنتظر.

أبطاله ليسوا شخوصاً، بل أنبياء منسيّون من طين. كل شخصية تمشي وتقطر من أطرافها الفلسفة، وتشعّ من عيونها فجيعةٌ لا تحتملها اللغة.

فاطمة: ليست فتاة، بل ميثولوجيا تمشي على قدمين. هي الباب الذي تنام خلفه كلّ الأمهات المفقودات، المدينة والمرأة، الجرح والأمل، البوابة الأولى والصدى الأخير. هي البوصلة التي يتبعها الحنين حين يتوه، والرقة حين كانت حلماً وحين أضحت ذكرى. هي جغرافيا البكاء وتاريخ القلب حين ينسى أن ينبض.

أدهم: قتيلٌ خانته العائلة قبل أن تذبحه الحرب. رمز الحقيقة المغدورة، والفكرة التي لا تقبلها الجموع. نبيّ دلّ قومه على جرح أعمق مما يحتملون، فرجموه. قبره ليس في الأرض، بل في كل عقل رفض أن يسير على جثث المساكين.

الشيخ الأبيض: هو الخَضِر أو ظله. ذاك الذي يُطلّ في التوقيت الخطأ، ليزرع زهرة في يد طفلة تهرب من القصف. رمز الرحمة النادرة في زمن صار فيه القديسون غباراً، وملائكة الرحمة عاطلين عن المعجزات.

كلّ شخصية رمز، كلّ حدث كناية، كل تفصيلة مجاز يُفضي إلى مجاز أكبر، حتى يغدو النص زوبعة من الرموز، لا يُفهم فيها المعنى إلا إن دخلتها كما يدخل العارف حضرة الجلال: مغمض العينين، خفيف القلب، مفلساً من كل تفسير.

الرقة هنا لا تُروى، بل تُرتّل. تموت لا لتُدفن، بل لتُبعث. تتأرجح بين الفناء والتجلي، كما يتأرجح درويشٌ في حلقة ذكر. كل باب فيها طورٌ من أطوار السالك، وكل موت فيها كشف، وكل سؤال مقام.

حين تطوي الصفحة الأخيرة، تشعر أن يداً خفية تمسح على قلبك وتهمس:
"لا بأس عليك… لقد مررنا من باب الحزن، وما زال باب المعنى مفتوحاً".
والمعنى؟ هو أنت.. حين تبكي مدينة لم تزرها، وتحب امرأة لم تُخلق بعد.

دعيس لا يُقحم الصوفية، بل يجعلها النواة التي تدور حولها الجملة. يعيد تشكيل المعجم الصوفي لا بالأوراد والكرامات ، بل بالمجازات والندوب. لا يكتب عن التصوّف، بل يكتبه.

الوجود في هذه الرواية تجلٍّ وسقوط وعروج واحتراق. كل شخصية فيها تُشبه الحلاج وهو يُقاد إلى الصلب، يتكلم بلغة لا يفهمها إلا من خاض شهوات الحقيقة، ثم عاد منها بلا لسان.

ليست رواية، بل مقامٌ روحي، مرثية للأمكنة، محكمة للزمن، صلاة الذين يئسوا من السماء فعادوا إلى التراب وسجدوا عليه.

* كاتبة سورية، تستخدم اسماً مستعاراً، حسابها على موقع فيس بوك وطفة الفرات 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.