أحمد حمزة *
تضجر خميس من دراستنا لما يشبه الأمثال الشعبية في محاضرة الترجمة السياسية من اللغة الألمانية، وتساءل عن السبب أو العلاقة بينهما! حاولت جاهداً أن أجيبه لكنه استمر على ضجره ولم يقتنع. لذا فكرت في كتابة هذا المقال في محاولة مني لفهم العلاقة بين المثل الشعبي والسياسة.
كثيراً ما أسمع أن السياسة لعبة الكبار، لكن الحقيقة أنها في بلادنا أقرب إلى جلسة قهوة من تلك التي يدور فيها النقاش حول سعر الطماطم ومستقبل الوطن في آنٍ واحد. جلسة تبدأ بجدية وتنتهي بمثل شعبي يلخص الموقف كله. فحين يتحدث مسؤول عن الأمل، ويقسم بأنه آت لا محالة، يرد عليه أحدهم قائلاً "قالوا للحرامي احلف".. وعندها تنتهي كل النقاشات الممكنة، لأن المثل هنا بمثابة حكم نزل من السماء لا يُرد ولا يُناقش.
ونرى أن الأمثال الشعبية تسللت إلى الحياة السياسية كأنها تعرف الطريق جيداً. في كل تصريح أو مؤتمر أو حوار تلفزيوني، هناك دائماً مثل جاهز يقفز من الذاكرة. السياسي حين يريد أن يبدو قريباً من الناس، لا يستشهد بديكارت ولا مانديلا، بل يقول بثقة: "اللي ما يشوف من الغربال يبقى أعمى". والجمهور يصفق، لأنه فهم الرسالة وشعر أن الرجل يتحدث بلغته، لا بلغة النخبة التي تتحدث عن "الإصلاح الهيكلي" و"المؤشرات الاقتصادية" والشيوعية والاشتراكية وغيرهم من المصطلحات التي تنتهي بـ(يّة)، وتبدو كألغاز من كوكب آخر.
المشكلة ليست في المثل نفسه، بل في الطريقة التي يُستخدم بها. فالمثل الشعبي في أصله خلاصة تجربة، حكمة خرجت من أفواه الأجداد بعد عمر من الملاحظة والتجريب، لكنه في السياسة يتحول أحياناً إلى سلاح. مثل بسيط يمكن أن يُستخدم لتبرير القسوة، أو لإقناع الناس بالصبر على وضع لا يُحتمل. فيُقال لهم مثلاً: "الصبر مفتاح الفرج". وهكذا يتحول الصبر إلى استراتيجية وطنية طويلة الأمد.
ولأن الأمثال بطبيعتها مرنة وغامضة، يمكن لأي سياسي أن يجد فيها ما يبرر به موقفه؛ فإذا فشل مثلاً، قال بثقة لا تهتز: "اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين". وهكذا يصبح المثل الشعبي مظلةً تحمي الجميع من النقد، لأن "القدر" و"الزمان" هما المسؤولان دائماً، وليس البشر.
لكن برغم ذلك، لا يمكن إنكار سحر الأمثال.. هي اللغة التي يفهمها الجميع بلا شرح. حين يقول أحدهم: "على قد لحافك مد رجليك"، فهو يختصر درساً في الاقتصاد والسياسة العامة والواقعية الحياتية في خمس كلمات فقط. لا يوجد خبير اقتصادي يمكنه أن يشرح الموازنة العامة بتلك البساطة. لذلك يظل المثل الشعبي أكثر قدرة على الوصول إلى قلوب الناس من أي بيان رسمي.
المثير أن استخدام الأمثال في السياسة ليس اختراعاً محلياً، بل حتى في الخطابات الغربية، ومنه عنوان مقالنا على سبيل المثال، المأخوذ من تصريح لوزير الدفاع الألماني قال فيه "لن نذهب إلى كانوزا." ويقصد به أن الألمان لن يخضعوا" وبهذا المثل أو العبارة أجاد في توصيل رسالته إلى شعبه بطريقة تلمس القلب يفهمها كل أحد.
غير أن الخطورة تبدأ عندما يتحول المثل إلى بديل عن التفكير. عندما نكتفي بقول "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش" بدل أن نجرؤ على التغيير. وعندما نصبح شعباً يبرر كل شيء بمثل، سنجد أنفسنا ندور في حلقة مغلقة من الحكمة المزيفة. فالأمثال التي خرجت من رحم الفقر والخوف قبل مئات السنين لا يمكن أن تظل مرجعنا في عالم يتغير كل يوم.
فالأمثال الشعبية مثل المسكنات، لا تعالج الداء لكنها تجعلنا نتحمله؛ لأننا حين نقول "كل تأخيرة وفيها خيرة" بعد كل أزمة، فإننا لا نحاول فهم الأسباب، بل نحتمي في الكلمات التي تريحنا من التفكير.
السياسة تحتاج إلى وعي، لا إلى أمثال. تحتاج إلى عقل يفكر لا إلى لسان يردد. ومع ذلك، يظل للمثل مكانه الجميل، حين يُقال في وقته الصادق، لا حين يُستخدم كدهان لتجميل الواقع. فرب كلمة "قالوا زمان" تُضحكك لحظة، لكنها قد تُخدّرك عمراً. وأرجو أن يكون خميس قد اقتنع بضرورة دراسة الأمثال الألمانية؛ حتى يتثنى له ترجمة تصريح كتصريح وزير الدفاع الألماني السالف ذكره في سياقه، لا بشكل حرفي يثير حالة من عدم الفهم واللبس
* كاتب مصري، طالب بكلية الألسن/ قسم اللغة الألمانية


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.