عبدالكريم البليخ: الصحافة العربية… ورقٌ يصرخُ بالصمت! - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

السبت، 15 نوفمبر 2025

عبدالكريم البليخ: الصحافة العربية… ورقٌ يصرخُ بالصمت!

 


عبدالكريم البليخ *

عندما أطالع بعض صحفنا العربية، ومنها صحف عريقة عاشت عقوداً وسط زحام الحبر والورق، ينتابني شعور عميق يشبه الأسى، أو ما هو أبعد من الأسى بقليل. فهذه الصحف، التي يُفترض أن تكون مرآة لحياة متجددة نابضة، تبدو أحياناً وكأنها دعوة صريحة لسفح الدموع وشق الجيوب وتعذيب النفس. أكثر ما يؤلمني أنّ هذه الدعوة ليست مجانية، بل تُموَّل بأيدي بسطاء الناس… أولئك الذين يجدون في الندب نوعاً من الوفاء، أو في البكاء على الأطلال نشاطاً يومياً يملأ الفراغ الداخلي ويُسكِت شيئاً من صخب الحياة.

ففي كثير من الصحف العربية، تتصدّر صفحات كاملة ـ وأحياناً صفحتان أو أكثر ـ لإعلانات النعي، وللدعوة إلى حضور المآتم، ولتذكير الأحياء بمرور أربعين يوماً على الراحل أو سنة أو حتى خمس سنوات. وكأن الزمن وحده لا يكفي ليذكّرنا بالفقد، فتوكل الصحيفة إلى نفسها مهمة تأبيد الحزن وإبقائه حاضراً، منقوشاً على الورق، يتصفّحه الناس مع قهوتهم الصباحية.

وأولئك الذين يقرؤون الصحف بانتظام سيلاحظون أن عدوى "الندب" امتدّت إلى المحتوى نفسه؛ فحتى حين لا تعلن الصحيفة صراحة عن وفاة أحد، فإن أسلوبها يميل إلى التوجّع، وإلى تصوير الحياة كأنها سلسلة متصلة من الانكسارات. ولا أعرف إن كانت الصحف تفعل ذلك مُرغمة أو راغبة، لكنها ـ في كل الأحوال ـ تسير في الطريق ذاته الذي سارت فيه الصحافة العربية لعقود: طريقٌ مفروش باليأس، يختبئ تحت زخرف لغوي متقن، لكنه يظل يأساً في جوهره.

ودلالة كل ذلك أننا مازلنا، كعرب، نملك ولعاً عجيباً بتعذيب النفس. وربما لا نبالغ إذا قلنا إننا ورثنا هذا الولع من أجدادنا الشعراء، الذين كانوا يبدؤون قصائدهم بالبكاء على الأطلال قبل الحديث عن الحب أو الحكمة أو مدح السلاطين. وكأن الشاعر لم يكن يجد شرعية لبداية القصيدة إلا عبر دمعة تُسكب، أو حزنٍ يُثار، أو ذكرى طللٍ درس. وشاء التاريخ أن نحمل هذا الإرث معنا، وأن نُسقطه اليوم على صحفنا التي تحوّلت، في بعض جوانبها، إلى دفاتر عزاء.

حين أتوقف أمام هذا الأمر، وأتأمله مليّاً ـ وقد فكرت فيه كثيراً حتى أوذيت به ـ تلوح لي حقيقة واحدة لا سبيل للهرب منها: نحن شعب لم يصالح الحياة بعد. مازلنا نحمل أثقال العصور التي مرّت بنا؛ عصور الذل والانحطاط والانكسار الطويلة التي جعلتنا نميل إلى البكاء لا إلى الاحتفال، وإلى استحضار ما فقدناه بدلاً من العمل على ما يمكن أن نكسبه. ومن يكره الحياة ـ أو يخشاها ـ لا بد أن يكره نفسه بطريقة ما، أو يبقى على الأقل أسيراً للقبور المفتوحة التي تسكن داخله.

وفي ظني أننا، ما دمنا ندير ظهورنا للحياة بهذه الطريقة، فلا يحق لنا أن نطالب الآخرين باحترام ما لم نتمكن نحن من احترامه داخل ذواتنا. ما لم نحرق التوابيت التي نحملها معنا في أعماقنا، وما لم نُهدم الأقبية التي حبستنا فيها صفحات معتمة من تاريخ طويل كان يمكن أن يكون أكثر إشراقاً، فإننا سنبقى أمّة تبكي: تبكي أطلال الماضي كما فعل الأولون، أو تبكي على صفحات الصحف كما يفعل الأحفاد، أو تبكي بين سطور العاملين في هذه الصحف من فنيين ومحررين الذين أصبح "الندب" في بعض الأحيان جزءاً ثابتاً من مهنتهم، إن لم يكن عنوانها الأبرز.

وما يزيد الصورة تعقيداً أنّ هذا المسار صار، للأسف، مفروشاً بالورود. فإعلانات النعي التي تملأ الصفحات ليست مجرد خيارٍ صحفي، بل موردٌ مالي مهم تبحث عنه الصحف بكل طاقتها لتعويض تكاليفها الثقيلة. وكلما زاد حزن الناس وحرصهم على إعلان فجيعتهم، ازدادت قدرة الصحف على بيع المساحات الإعلانية. فالحزن ـ في كثير من الأحيان ـ أكثر ربحيةً من الفرح. وهكذا يُصبح الوجع باباً آخر لدعم استمرارية الصحيفة، وطريقة لتخفيف أعبائها المالية الضخمة. ومن خلال هذه الإعلانات تستطيع دفع أجور العاملين فيها من محررين وفنيين وإداريين، وتواصل دوران مطابعها التي قد تتوقف فجأة إن جفّت هذه الموارد.

وليس هذا مجرد افتراض، بل واقع ملموس؛ فقد توقفت صحف كثيرة في عالمنا العربي عن الصدور نهائياً عندما عجزت عن تغطية نفقاتها. ويبدو أننا ـ في منطقتنا ـ نواجه دائماً معادلة صعبة: إمّا أن نطبع الصحيفة على حساب روح الحياة، وإما أن نغلق أبواب المؤسسة إلى الأبد. وهكذا تتشكل علاقة غريبة بين البكاء والصمود: كلما بكى الناس أكثر، استطاعت الصحف الصمود أطول!.

ومع ذلك، فإن القضية أعمق بكثير من سياقها الإعلامي أو الاقتصادي. فخلف هذا كله يكمن سؤال ثقافي وإنساني كبير: لماذا نحتاج إلى الحزن بهذه الطريقة؟ لماذا لاتزال ثقافتنا تتكئ على الوجع مادةً رئيسة للكتابة وللذاكرة الجماعية؟ ولماذا يبدو الفرح في أحيان كثيرة فعلاً مترفاً لا نجرؤ على ممارسته علناً؟

ربما لأن الحزن ـ في شكله الجمعي ـ يمنحنا نوعاً من الوحدة الزائفة، أو شعوراً بالتضامن، أو إحساساً بأن الهوية نفسها تُبنى من الخسارات. وربما لأننا لم نتعلم بعد كيف نصنع لغة للحياة، لغة تُشبه نور الصباح لا غبار المقابر.

الصحافة، في جوهرها، يجب أن تكون مساحة للتنوير، لا دفتر عزاء مفتوحاً. يجب أن تعلّم الناس كيف يقرؤون الحياة، لا كيف يستسلمون لها. ومع ذلك، لا يمكن أن نلومها وحدها؛ فهي مرآتنا… ومهما حاولنا الهرب من انعكاسنا، يبقى وجهنا ـ بدموعه وندوبه ـ هو ما يظهر على الصفحات.

فإذا أردنا صحافة تحتفي بالحياة، فعلينا أولاً أن نعيد اكتشاف الحياة داخل أنفسنا. وإذا أردنا صفحات تُكتب بالنور، فعلينا أن نخرج من الأقبية القديمة، وأن نكسر إرث الندب المتجدد، وأن نتعلم أن للحياة ما يستحق أن يُعاش… وما يستحق أن يُكتب أيضاً.

* كاتب وصحافي سوري مقيم في النمسا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.