محمد عوض الجشي
أصر إن يغامر في يوم حارق. اللهيب يتفطر في جوف الأرض، ويتماوج مع التراب. ويعتمر الرمال الضاربة في الصحارى العطشى.. ويجاور الفجاج التي سلتها جداول المياه.. وتناسها الاستمطار.
توقف فجأة تحت شجرة جرداء قاحلة.. أخذ يتحسس أوراقها.. جدباء غبراء، يبدو أن اليباس أضناها لهيباً.. تنهد وزفرات تلسع الهواء ثم تعود القهقرى.. تباعاً.. وتحط فوق صدره.. كالمرجل.
راح يهذي ويهذي.. نيران لهب.. تشتعل وتتربع فوق الرأس وتحيط به من كافة الجهات.. ليته قبع بعيداً بعيداً.. أو أركن بين حيطان الديرة.. لكن فات الأوان إذاً لأعود في الحال.. آه آه.. آهات.. المسافة بون شاسع مناطق نائية وصحارى شاسعة. بيد أن التراب تشرئب من بين طياته ألسنة لهيب تتطاير يمنة ويسرة.. حتى تَبِيْنَ ذراتها لظى إثر لظى..
لهاث.. عطش، جمرٌ يؤز المفاصل ويسرى بين الضلوع حارقاً لا يقوى عليه صحيح الجسم والقوي الجسور...غير أنه استقوى على هيكلية الروح التي تعانق السماء وتناجي رب العباد.. أن يجعل يومه طريقاً سهلاً والعود أملاّ.
الإنهاك بادٍ ظاهرٌ على الوجنات.. رباه.. رباه ماذا أرى.. كوخٌ ترى من بين جوانبه أشجار خضراء يانعة، وكذا تبدو بعض من شجيرات خضرة نيرة.. أشبه بستائر تلتحف جدران سندسية مزينة في ديار سابحة في الصحاري المترامية الأطراف.
أسرع أسرع.. هلم وامضِ يا صاحبي.. استمر.. لا تثقل وزنك.. رجلاك ما فتئتا تصارعان غرز الرمال.. وتقويان حين تلمسان التراب. إنه الفرج المرتجى آتِ لا محال.. أنت في أمان.. وثغرك العطش سيرتوي ويرتوى من أول قطرة.
اجرِ اجرِ.. ماذا جرى أن وصلت إلى الكوخ.. ألا تسعفك الكلمات؟ حلقي ما برح يلتحف الجاف ولساني متجمد ولا يستطيع الولوغ وينفث الزفرات! جراء تقلبات اليوم الحار الجاف القاسي.
ها هو يقترب ويقرب.. رويداً رويداً.. رباه رباه.. ماذا أرى، وما أرى بأم عيني.. كوب ماء بارد يمتد إليّ وصوبي.. تلمست الكوب.. يا للروعة يا للجمآل يا للأنس يا للسكينة.. آه من رقة اليد الحانية الناعمة الخفية الندية. دبت الروح في عروقي وانطلق لساني.. وجه ملائكي أشف من لون السماء وارقى من النسيم العليل البارد الحاني..إنه طيف نسائي ودود ملؤه الرحمة والعطاء والنماء والبناء. أمسك الكوب.. إنه يعتصر برداً وسلاماً.. ماء عذب سلسبيل كأنه من أنهار الجِنان.. رباه يا إلهي.. ها هو لساني ينطلق وقد فك من رباط محكم. وقبل أن يغب ويغب الماء قال في خلده: إيه والله ارتوى قلبي قبل فمي من نظرة يــدِ معطاءة لا تنفطر أو تذوي مع مرور الأيام وتقلبات الزمن، وأخذ يحدث نفسه ليتني ظللت عطشان طوال الدهر. تحت ظل أنثى حانية حنونة.. تسقيني رذاذاً بارداً طيباً يروي العطاش الضاربين بواطن الأرض عِفافاً وإقداماً.. وينتشي رضاباً من الأيادي الناعمة المزيونة التي تختصر المسافات وتهدأ الروع.. سقياً ورعياً.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.